وصرح به فيما بينهما تنصيصا على ما هو المقصود وإشعارا بأنه المراد فيهما أيضا ولله تعالى در شأن التنزيل وقوله سبحانه: لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلق بالفعل المعلل بالرحمة وهو يستدعي أن يكون الإرسال بالقرآن أو ما في معناه كتعليم القرآن دون تعليم ما ذكر من القصة إذ لا يظهر حسن تعليله بالإنذار، وجوز أن يتعلق بالمستدركات الثلاث على التنازع.
وقرأ عيسى، وأبو حيوة «رحمة» بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير ولكن هو أو هذا أو هي أو هذه رحمة والضمير أو الإشارة قيل للإرسال المفهوم من الكلام والتذكير والتأنيث باعتبار المرجع والخبر والخلاف في الأولى مشهور، وجوز أبو حيان أن يكون التقدير ولكن أنت رحمة ولتنذر على هذه القراءة متعلق بما هو صفة لرحمة وقوله جل وعلا: ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ صفة لقوما ومِنْ الأولى مزيدة للتأكيد وقوله تعالى: لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ أي يتعظون بإنذارك تعليل للإنذار على القول بأن لعل للتعليل وأما على القول بأنها للترجي حقيقة أو مجازا فقيل هو في موضع الصفة بتقدير القول أي لتنذر قوما مقولا فيهم لعلهم يتذكرون والمراد بهؤلاء القوم قيل العرب، وظاهر الآية أنهم لم يبعث إليهم رسول قبل نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم أصلا وليس بمراد للاتفاق على أن إسماعيل عليه السلام كان مرسلا إليهم وكأنه لتطاول الأمد بين بعثته عليه السلام وبعثة نبينا عليه الصلاة والسلام إذ بينهما أكثر من ألفي سنة (١) بكثير واندراس شرعه وعدم وقوف الأكثرين في أغلب هذه المدة على حقيقته قيل: ذلك، وقيل: إن ذلك لما صرحوا به من أن حكم بعثة إسماعيل عليه السلام قد انقطع بموته وأنه لم يرسل إليهم بعده نبي سوى النبي صلى الله تعالى عليه وسلّم قال العلامة ابن حجر في المنح المكية: من المقرر أن العرب لم يرسل إليهم رسول بعد إسماعيل عليه الصلاة والسلام وأن إسماعيل انتهت رسالته بموته وادعى قبيل هذا الاتفاق على أن إبراهيم عليه السلام ومن بعده أي سوى إسماعيل عليه السلام لم يرسلوا للعرب ورسالة إسماعيل إليهم انتهت بموته اهـ، فكأنه لقلة لبث إسماعيل عليه السلام فيهم وانقطاع حكم رسالته بعد وفاته فيما بينهم وبقائهم الأمد الطويل بغير رسول مبعوث فيهم نفي إتيان النذير إياهم من قبله صلّى الله عليه وسلّم.
وذكر العلامة ابن حجر في المنح أيضا ما يفيد أن كل رسول ممن عدا نبينا صلّى الله تعالى عليه وسلّم تنقطع رسالته بموته وليس ذلك خاصا بإسماعيل عليه السلام، ويفهم من كلام العز بن عبد السلام في أماليه أن هذا الانقطاع ليس على إطلاقه فقد قال: «فائدة» كل نبي إنما أرسل إلى قومه إلا سيدنا محمدا صلّى الله تعالى عليه وسلّم فعلى هذا يكون ما عدا قوم كل نبي من أهل الفترة إلا ذرية النبي السابق عليه فإنهم مخاطبون ببعثة السابق إلا أن تدرس شريعة السابق فيصير الكل من أهل الفترة اهـ. وهو وكذا ما نقلناه عن العلامة ابن حجر عندي الآن على أعراف الرد والقبول، ولعل الله تعالى يشرح صدري بعد لتحقيق الحق في ذلك، وقيل: إن موسى، وعيسى عليهما السلام كما أرسلا لبني إسرائيل أرسلا للعرب فالمراد بنفي هذا الإتيان الفترة التي بين عيسى ونبينا عليهما الصلاة والسلام، ومنها على ما روى البخاري عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه ستمائة سنة وفي كثير من الكتب أنه خمسمائة وخمسون سنة، ونفي إتيان نبي بين زماني إتيان نبينا وإتيان عيسى عليهما الصلاة والسلام هو ما صححه جمع من العلماء لحديث لا نبي بيني وبين عيسى وقال بعضهم: إن بينهما أربعة أنبياء ثلاثة من بني إسرائيل وواحد من العرب وهو خالد بن سنان، وقيل: غير ذلك، واختار البعض أن المراد بهؤلاء القوم العرب المعاصرون له صلّى الله تعالى عليه وسلّم إذ هم الذين

(١) قوله أكثر من ألفي سنة إلخ في الحاوي للسيوطي ما يدل على أن بينهما نحوا من ثلاثة آلاف سنة اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon