ممكن، ولأن العلم صفة الروح والعمل صفة البدن فكما أن الروح أشرف من البدن كذلك العلم أشرف من العمل، وقيل: المراد بالحكم الحكمة التي هي الكمال في العلم والعمل. والمراد بقوله: وَأَلْحِقْنِي إلخ طلب الكمال في العمل، وذكره بعد ذلك تخصيص بعد تعميم اعتناء بالعمل من حيث إنه النتيجة والثمرة للعلم. وقيل: المراد بالأول ما يتعلق بالمعاش وبالثاني ما يتعلق بالمعاد. وقيل: المراد بالحكم رياسة الخلق وبالإلحاق بالصالحين التوفيق للعدل فيما بينهم مع القيام بحقوقه تعالى. وقيل: المراد بهذا الجمع بينه عليه السلام وبين الصالحين في الجنة، وأنت تعلم أنه لا يحسن بعد هذا الدعاء طلبه أن يكون من ورثة جنة النعيم والأولى عندي أن يفسر الحكم بالحكمة بمعنى الكمال في العلم والعمل والإلحاق بالصالحين بجعل منزلته كمنزلتهم عنده عز وجل والمراد بطلب ذلك أن يكون علمه وعمله مقبولين إذ ما لم يقبلا لا يلحق صاحبهما بالصالحين ولا تجعل منزلته كمنزلتهم. وكأنه لذلك عدل عن قول: رب هب لي حكما وصلاحا أو رب هب لي حكما واجعلني من الصالحين إلى ما في النظم الكريم فتأمل ولا تغفل وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي اجعل لنفعي ذكرا صادقا في جميع الأمر إلى يوم القيامة، وحاصله خلد صيتي وذكري الجميل في الدنيا وذلك بتوفيقه للآثار الحسنة والسنن المرضية لديه تعالى المستحسنة التي يقتدي بها الآخرون ويذكرونه بسببها بالخير وهم صادقون. فاللسان مجاز عن الذكر بعلاقة السببية واللام للنفع ومنه يستفاد الوصف بالجميل، وتعريف الْآخِرِينَ للاستغراق والكلام مستلزم لطلب التوفيق للآثار الحسنة التي أشرنا إليها وكأنه المقصود بالطلب على أبلغ وجه ولا بأس بأن يريد تخليد ذكره بالجميل ومدحه بما كان عليه عليه السلام في زمانه ولكون الثناء الحسن مما يدل على محبة الله تعالى ورضائه كما ورد في الحديث يحسن طلبه من الأكابر من هذه الجهة والقصد كل القصد هو الرضا.
ويحتمل أن يراد بالآخرين آخر أمة يبعث فيها نبي وأنه عليه السلام طلب الصيت الحسن والذكر الجميل فيهم ببعثة نبي فيهم يجدد أصل دينه ويدعو الناس إلى ما كان يدعوهم إليه من التوحيد معلما لهم أن ذلك ملة إبراهيم عليه السلام فكأنه طلب بعثة نبي كذلك في آخر الزمان لا تنسخ شريعته إلى يوم القيامة وليس ذلك إلا نبينا محمدا صلّى الله عليه وسلّم وقد طلب بعثته عليهما الصلاة والسلام بما هو أصرح مما ذكر أعني قوله: وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ [البقرة: ١٢٩] إلخ، ولذا
قال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «أنا دعوة إبراهيم عليه السلام».
وقيل إذا أريد ذلك فلا بد من تقدير مضاف في كلامه عليه السلام أي اجعل لي صاحب لسان صدق في الآخرين أو جعل اللسان مجازا عن الداعي بإطلاق الجزء على الكل لأن الدعوة باللسان فكأنه قال: اجعل لي داعيا إلى الحق صادقا في الآخرين، ولا يخفى أن فيما ذكرناه غني عن ذلك كله، وفي تعليقات شيخ مشايخنا العلامة صبغة الله الحيدري طاب ثراه على تفسير البيضاوي في هذه الآية كلام ناشىء من قلة إمعان النظر فلا تغتر به.
واستدل الإمام مالك بهذه الآية على أنه لا بأس أن يحب الرجل أن يثني عليه صالحا، وفائدة ذلك بعد الموت على ما قال بعض الأجلة انصراف الهمم إلى ما به يحصل له عند الله تعالى زلفى وأنه قد يصير سببا لاكتساب المثنى أو غيره نحو ما أثنى به فيثاب فيشاركه فيه المثنى عليه كما هو مقتضى
«من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة»
ولا يخفى عليك أن الأمور بمقاصدها وَاجْعَلْنِي في الآخرة مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ قد مر معنى وراثة الجنة فتذكر. واستدل بدعائه عليه السلام بهذا بعد ما تقدم من الأدعية على أن العمل الصالح لا يوجب دخول الجنة وكذا كون العبد ذا منزلة عند الله عز وجل وإلا لاستغنى عليه السلام بطلب الكمال في العلم والعمل وكذا بطلب الإلحاق بالصالحين ذوي الزلفى عنده تعالى عن طلب ذلك، وأنت تعلم أنه تحسن الإطالة في مقام


الصفحة التالية
Icon