فإنه يجوز تخالف معنى القراءتين إذا لم يتناقضا، وكون فريق غالبا ومغلوبا في زمانين غير متدافع فتأمل انتهى.
ولا يخفى على من سبر السبر أن هذا مما لا يكاد يتسنى لأن الروم لم يغلبهم المسلمون في تلك الغزوة بل انصرفوا عنهم بعد أن أصيبوا بجعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وعبد الله بن رواحة، وعباد بن قيس في آخرين من الصحابة رضي الله تعالى عنهم أجمعين كالمغلوبين، بل
ذكر ابن هشام أنهم لما أتوا المدينة جعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار فررتم في سبيل الله تعالى وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى»
وروي أن أم سلمة قالت لامرأة سلمة بن هشام بن العاص بن المغيرة: مالي لا أرى سلمة يحضر الصلاة مع رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومع المسلمين؟ فقالت: والله ما يستطيع أن يخرج كلما خرج صاح به الناس يا فرار ففررتم في سبيل الله حتى قعد في بيته ولم يخرج، وذكر أبياتا لقيس اليعمري يعتذر فيها مما صنع يومئذ وصنع الناس وقد تضمنت كما قال بيان أن القوم حاجزوا وكرهوا الموت وأن خالد بن الوليد انحاز بمن معه، على أن فيما ذكر أنه الصواب بحثا بعد: فلعل الأول في التوفيق إذا صحت هذه القراءة ما ذكر أولا فتأمل..
وفي البحر كان شيخنا الأستاذ أبو جعفر بن الزبير يحكي عن أبي الحكم بن برجان أنه استخرج من قوله تعالى:
الم غُلِبَتِ الرُّومُ- إلى- سِنِينَ افتتاح المسلمين بيت المقدس معينا زمانه ويومه وكان إذ ذاك بيت المقدس قد غلبت عليه النصارى وإن ابن برجان مات قبل الوقت الذي عينه للفتح وإنه بعد موته بزمان افتتحه المسلمون في الوقت الذي عينه أبو الحكم وكان أبو جعفر يعتقد في أبو الحكم هذا أنه كان يتطلع على أشياء من المغيبات يستخرجها من كتاب الله تعالى انتهى، واستخرج بعض العارفين كمحيي الدين قدس سره، والعراقي، وغيرهم المغيبات من القرآن العظيم أمر شهير وهو مبني على قواعد حسابية وأعمال حرفية لم يرد شيء منها عن سلف الأمة ولا حجر على فضل الله عزّ وجلّ وكتاب الله تعالى فوق ما يخطر للبشر،
وقد سئل علي كرم الله تعالى وجهه هل أسر إليكم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئا كتمه عن غيركم فقال: لا إلّا أن يؤتي الله تعالى عبدا فهما في كتابه،
هذا ونسأل الله سبحتانه أن يوفقنا لفهم أسرار كتابه بحرمة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم وأصحابه.
لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ أي من قبل هذه الحالة ومن بعدها وهو حاصل ما قيل أي من قبل كونهم غالبين وهو وقت كونهم مغلوبين ومن بعد كونهم مغلوبين وهو وقت كونهم غالبين، وتقديم الخبر للتخصيص، والمعنى أن كلا من كونهم مغلوبين أولا وغالبين آخرا ليس إلا بأمر الله تعالى شأنه وقضائه عزّ وجلّ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ [آل عمران: ١٤٠] وقرأ أبو السمال، والجحدري عن العقيلي «من قبل ومن بعد» بالكسر والتنوين فيهما فليس هناك مضاف إليه مقدر أصلا على المشهور كأنه قيل: لله الأمر قبلا وبعدا أي في زمان متقدم وفي زمان متأخر، وحذف بعضهم الموصوف، وذكر السكاكي أن المضاف إليه مقدر في مثل ذلك أيضا والتنوين عوض عنه، وجوز الفراء الكسر من غير تنوين، وقال الزجاج: إنه خطأ لأنه إما أن لا يقدر فيه الإضافة فينون أو يقدر فيبنى على الضم، وأما تقدير لفظه قياسا على قوله: بين ذراعي وجبهة الأسد فقياس مع الفارق لذكره فيه بعد وما نحن فيه ليس كذلك، وقال النحاس للفراء في كتابه: في القرآن أشياء كثيرة الغلط، منها أنه زعم أنه يجوز «من قبل ومن بعد» بالكسر بلا تنوين وإنما يجوز «من قبل ومن بعد» على أنهما نكرتان أي من متقدم ومن متأخر، وذهب إلى قول الفراء بن هشام في بعض كتبه، وحكى الكسائي عن بعض بني أسد «لله الأمر من قبل ومن بعد» على أن الأول مخفوض منون والثاني مضموم بلا تنوين.
وَيَوْمَئِذٍ أي ويوم إذ يغلب الروم فارسا يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ وتغليبه من له كتاب على من لا


الصفحة التالية
Icon