وقرأ الحرميان، وأبو عمرو «عاقبة» بالرفع على أنه اسم كان و «السوأى» بالنصب على الخبرية، وقرأ الأعمش، والحسن «السوي» بإبدال الهمزة واوا وإدغام الواو فيها، وقرأ ابن مسعود «السوء» بالتذكير أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ علة للحكم المذكور أي لأن أو بأن كذبوا وهو في الحقيقة مبين لما أشعر به وضع الموصول موضع الضمير لأنه مجمل.
وقوله تعالى: وَكانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ عطف على كَذَّبُوا داخل معه في حكم العلية وإيراد الاستهزاء بصيغة المضارع للدلالة على استمراره وتجدده، وجوز أن يكون السُّواى مفعولا مطلقا لأساؤوا من غير لفظه أو مفعولا به له لأن أساؤوا بمعنى اقترفوا واكتسبوا، والسوأى بمعنى الخطيئة لأنه صفة أو مصدره مؤول بها وكونه صفة مصدر أساؤوا من لفظه أي الإساءة السوأى بعيد لفظا مستدرك معنى وأَنْ كَذَّبُوا اسم كان. وكون التكذيب عاقبتهم مع أنهم لم يخلوا عنه إما باعتبار استمراره أو باعتبار أنه عبارة عن الطبع، وجوز أن يكون أن كذبوا بدلا من السُّواى الواقع اسما لكان أو عطف بيان لها أو خبر مبتدأ محذوف أي هي أن كذبوا، وأن تكون أَنْ تفسيرية بمعنى أي والمفسر إما أساؤوا أو السُّواى فإن الإساءة تكون قولية كما تكون فعلية فإذن قبلها مضمن معنى القول دون حروفه ويظهر ذلك التضمن بالتفسير، وإذا جاز وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا [ص: ٦] فهذا أجوز فليس هذا الوجه متكلفا خلافا لأبي حيان. وجوز في قراءة الحرميين، وأبي عمرو وأن تكون السُّواى صلة الفعل وأَنْ كَذَّبُوا تابعا له أو خبر مبتدأ محذوف أو على تقدير حرف التعليل وخبر كان محذوفا تقديره وخيمة ونحوه وتعقب ذلك في البحر فقال: هو فهم أعجمي لأن الكلام مستقل في غاية الحسن بلا حذف وقد تكلف له محذوف لا يدل عليه دليل، وأصحابنا لا يجيزون حذف خبر كان اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ أي ينشئهم.
وقرأ عبد الله وطلحة «يبدىء» بضم الياء وكسر الدال، وقد تقدم الكلام في ذلك فتذكر فما بالعهد من قدم.
ثُمَّ يُعِيدُهُ بالبعث ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء، وتقديم المعمول للتخصيص، وكان الظاهر يرجعون بياء الغيبة إلا أنه عدل عنه إلى خطاب المشركين لمكافحتهم بالوعيد ومواجهتهم بالتهديد وإيهام إن ذلك مخصوص بهم فهو التفات للمبالغة في الوعيد والترهيب. وقرأ أبو عمرو، وروح «يرجعون» بياء الغيبة كما هو الظاهر وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ التي هي وقت إعادة الخلق ومرجعهم إليه عزّ وجلّ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ أي يسكتون وتنقطع حجتهم، قال الراغب: الإبلاس الحزن المعترض من شدة اليأس ومنه اشتق إبليس فيما قيل، ولما كان المبلس كثيرا ما يلزم السكوت وينسى ما يعنيه قبل أبلس فلان إذا سكت وانقطعت حجته وأبلست الناقة فهي مبلاس إذا لم ترغ من شدة الضبعة (١) وقال ابن ثابت: يقال أبلس الرجل إذا يئس من كل خير،
وفي الحديث «وأنا مبشرهم إذا أبلسوا»
والمراد بالمجرمين على ما أفاده الطيبي أولئك الذين أساؤوا والسوأى لكنه وضع الظاهر موضع ضميرهم للتسجيل عليهم بهذا الوصف الشنيع والإشعار بعلة الحكم.
وقرأ علي كرم الله تعالى وجهه، والسلمي «يبلس» بفتح اللام
وخرج على أن الفعل من أبلسه إذا أسكته، وظاهره أنه يكون متعديا وقد أنكره أبو البقاء، والسمين، وغيرهما حتى تكلفوا وقالوا: أصله يبلس إبلاس المجرمين على إقامة المصدر مقام الفاعل ثم حذفه وإقامة المضاف إليه مقامه. وتعقبه الخفاجي عليه الرحمة فقال: لا يخفى عدم صحته لأن إبلاس المجرمين مصدر مضاف لفاعله وفاعله هو فاعل الفعل بعينه فكيف يكون نائب الفاعل فتأمل.
وأنت تعلم أنه متى صحت القراءة لا تسمع دعوى عدم سماع استعمال أبلس متعديا.

(١) قوله «الضبعة» هي شدة شهوة الناقة للفحل اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon