الأعلام بمقدار زمن الغدو وزمن الرواح والألفاظ التي تأتي مبينة للمقادير لا يحسن فيها الإضمار ألا ترى أنك تقول زنة هذا مثقال وزنة هذا مثقال فلا يحسن الإضمار كما لا يحسن في التمييز، وأيضا فإنه لو أضمر فالضمير إنما يكون لما تقدم باعتبار خصوصيته فإذا لم يكن له بذلك الاعتبار وجب العدول إلى الظاهر، ألا ترى أنك إذا أكرمت رجلا وكسوت ذلك الرجل بخصوصه لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوته ولو أكرمت رجلا وكسوت رجلا آخر لكانت العبارة أكرمت رجلا وكسوت رجلا فتبين أنه ليس من وضع الظاهر موضع الضمير كذا في حواشي الطيبي عليه الرحمة، ولا يخفى أن ما ذكره مبني على ما هو الغالب وإلا فقد قال تعالى: وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ [فاطر: ١١] ولم يقتصر على الإعلام بزمن الغدو ليقاس عليه زمن الرواح لأن الريح كثيرا ما تسكن أو تضعف حركتها بالعشي فدفع بالتنصيص على بيان زمن الرواح توهم اختلاف الزمانين، قال قتادة كانت الريح تقطع به عليه السّلام في الغدو إلى الزوال مسيرة شهر وفي الرواح من بعد الزوال إلى الغروب مسيرة شهر.
وأخرج أحمد في الزهد عن الحسن أنه قال في الآية كان سليمان عليه السّلام يغدو من بيت المقدس فيقيل بإصطخر ثم يروح من إصطخر فيقيل بقلعة خراسان.
وقد ذكر حديث هذه الريح في بعض الأشعار القديمة قال وهب: ونقله عنه في البحر وجدت أبياتا منقورة في صخرة بأرض كسكر لبعض أصحاب سليمان عليه السّلام وهي:

ونحن ولا حول سوى حول ربنا نروح من الأوطان من أرض تدمر
إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا مسيرة شهر والغدو لآخر
أناس شروا لله طوعا نفوسهم بنصر ابن داود النبي المطهر
لهم في معالي الدين فضل ورفعة وإن نسبوا يوما فمن خير معشر
متى تركب الريح المطيعة أسرعت مبادرة عن شهرها لم تقصر
تظلم طير صفوف عليهم متى رفرفت من فوقهم لم تنفر
وذكر أيضا رضي الله تعالى عنه أنه عليه السّلام كان مستقره تدمر وأن الجن قد بنتها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأشقر وقال: وفيه يقول النابغة:
ألا سليمان إذ قال الإله له قم في البرية فاصددها عن الفند
وجيش الجن إني قد أذنت لهم يبنون تدمر بالصفاح والعمد
انتهى، وما ذكره في تدمر هو المشهور عند العامة وقد ذكر ذلك الثعالبي في تفسيره مع الأبيات المذكورة لكن في القاموس تدمر كتنصر بنت حسان بن أذينة بها سميت مدينتها وهو ظاهر في المخالفة، ولعل التعويل على ما فيه إن لم يمكن الجمع والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وقرأ ابن أبي عبلة «غدوتها» «وروحتها» على وزن فعلة وهي المرة الواحدة غدا وراح وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ أي النحاس الذائب من قطر يقطر قطرا وقطرانا بسكون الطاء وفتحها، وقيل الفلزات النحاس والحديد وغيرهما، وعلى الأول جمهور اللغويين، وأريد بعين القطر معدن النحاس ولكنه سبحانه أساله كما ألان الحديد لداود فنبع كما ينبع الماء من العين فلذلك سمي عين القطر باسم ما آل إليه، وذكر الجلبي أن نسبة الإسالة إلى العين مجازية كما في جري النهر.
وقال الخفاجي: إن كانت العين هنا بمعنى الماء المعين أي الجاري وإضافتها كما في لجين الماء فلا تجوز في


الصفحة التالية
Icon