نافية والجملة صفة قَوْماً مبينة لغاية احتياجهم إلى الإنذار، والمراد بالإنذار الأعلام أو التخويف ومفعوله الثاني محذوف أي عذابا لقوله تعالى: نَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً
[النبأ: ٤٠] والمراد بآبائهم آباؤهم الأدنون وإلا فالأبعدون قد أنذرهم إسماعيل عليه السّلام وبلغهم شريعة إبراهيم عليه السّلام.
وقد كان منهم من تمسك بشرعه على أتم وجه ثم تراخى الأمر وتطاول المدد، فلم يبق من شريعته عليه السّلام إلا الاسم. وفي البحر الدعاء إلى الله تعالى لم ينقطع عن كل أمة إما بمباشرة من أنبيائهم وإما بنقل إلى وقت بعثة نبينا صلّى الله عليه وسلم والآيات التي تدل على أن قريشا ما جاءهم نذير معناها لم يباشرهم ولا آباءهم القريبين. وأما أن النذارة انقطعت فلا، ولما شرعت آثارها ندرس بعث النبي صلّى الله عليه وسلم وما ذكره المتكلمون من حال أهل الفترات فهو على حسب الفرض اهـ.
وعليه فالمعنى ما أنذر آباءهم رسول أي لم يباشرهم بالإنذار لا أنه لم ينذرهم منذر أصلا فيجوز أن يكون قد أنذرهم من ليس بنبي كزيد بن عمرو بن نفيل وقس بن ساعدة فلا منافاة بين ما هنا وقوله تعالى: وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ [فاطر: ٢٤] وليس في ذلك إنكار الفترة المذكورة في قوله تعالى: عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ [المائدة:
١٩] لأنها فترة إرسال وانقطاعها زمانا لا فترة إنذار مطلقا، وعن عكرمة ما بمعنى الذي، وجوز أن تكون موصوفة وهي على الوجهين مفعول ثان لتنذر أي لتنذر قوما الذي أنذره أو شيئا أنذره الرسل آباءهم الأبعدين، وقال ابن عطية:
يحتمل أن تكون ما مصدرية فتكون نعتا لمصدر مؤكد أي لتنذر قوما إنذارا مثل إنذار الرسل آباءهم الأبعدين، وقيل هي زائدة وليس بشيء فَهُمْ غافِلُونَ هو على الوجه الأول متفرع على نفي الإنذار ومتسبب عنه والضمير للفريقين أي لم ينذر آباؤهم فهم جميعا لأجل ذلك غافلون، وعلى الأوجه الباقية متعلق بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ أو بما يفيده إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ وارد لتعليل إنذاره عليه الصلاة والسلام أو إرساله بغفلتهم المحوجة إليه نحو اسقه فإنه عطشان على أن الضمير للقوم خاصة فالمعنى فهم غافلون عنه أي عما أنذر آباؤهم.
وقال الخفاجي: يجوز تعلقه بهذا على الأول أيضا وتعلقه بقوله تعالى: لِتُنْذِرَ على الوجوه وجعل الفاء تعليلية والضمير لهم أو لآبائهم اهـ، ولا يخفى عليك أن المنساق إلى الذهن ما قرر أولا لَقَدْ حَقَّ جواب لقسم محذوف أي والله لقد ثبت ووجب الْقَوْلُ الذي قلته لإبليس يوم قال: لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر: ٣٩، ص:
٨٢] وهو لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ [هود: ١١٩، السجدة: ١٣] عَلى أَكْثَرِهِمْ متعلق بحق.
والمراد سبق في علمي دخول أكثرهم فيمن أملأ منهم جهنم وهم تبعة إبليس كما يشير إليه تقديم الجنة على الناس وصرح به قوله تعالى: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ [ص: ٨٥].
ولا مانع من أن يراد بالقول لكن المشهور ما تقدم، وظاهر كلام الراغب أن المراد بالقول علم الله تعالى بهم ولا حاجة إلى التزام ذلك، وقيل: الجار متعلق بالقول ويقال قال عليه إذا تكلم فيه بالشر، والمراد لقد ثبت في الأزل عذابي لهم، وفيه ما فيه، ويؤيد تعلقه بحق قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ [يونس:
٩٦]، ونقل أبو حيان أن المعنى حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل عليهم السّلام من التوحيد وغيره وبأن برهانه وهو كما ترى.
فَهُمْ أي الأكثر لا يُؤْمِنُونَ بإنذارك إياهم، والفاء تفريعية داخلة على الحكم المسبب عما قبله فيفيد أن ثبوت القول عليهم علة لتكذيبهم وكفرهم وهو علة له باعتبار سبق العلم بسوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر فإن علمه تعالى لا يتعلق بالأشياء إلا على ما هي عليه في أنفسها ومآله إلى أن سوء اختيارهم وما هم عليه في نفس الأمر علة لتكذيبهم وعدم إيمانهم بعد الإنذار فليس هناك جبر محض ولا أن المعلوم تابع للعلم.