مصدر ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ جواب لَوْ وفي الكلام اختصار يسمى حذف إيجاز ويدل على المحذوف السياق والتقدير ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر ممدود بسبعة أبحر وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله تعالى ما نفدت لعدم تناهيها ونفد تلك الأقلام والمداد لتناهيها، ونظير ذلك في الاشتمال على إيجاز الحذف قوله تعالى: أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ [البقرة: ١٩٦] أي فحلق رأسه لدفع ما به من الأذى ففدية، والمراد بكلماته تعالى كلمات علمه سبحانه وحكمته جلّ شأنه وهو الذي يقتضيه سبب النزول على ما
أخرج ابن جرير عن عكرمة قال: سأل أهل الكتاب رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم عن الروح فأنزل سبحانه وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا [الإسراء: ٨٥] فقالوا: تزعم (١) أنا لم نؤت من العلم إلّا قليلا وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا فنزلت وَلَوْ أَنَ
إلخ. وظاهر هذا أن اليهود قالوا ذلك له عليه الصلاة والسلام مشافهة وهو ظاهر في أن الآية مدنية، وقيل: إنهم أمروا وفد قريش أن يقولوا له صلّى الله تعالى عليه وسلم ذلك وهذا القائل يقول: إنها مكية، وحاصل الجواب أنه وإن كان ما أوتيتموه خيرا كثيرا لكونه حكمة إلّا أنه قليل بالنسبة إلى حكمته عزّ وجلّ.
وفي رواية أنه أنزل بمكة قوله تعالى وَيَسْئَلُونَكَ إلخ فلما هاجر عليه الصلاة والسلام أتاه أحبار اليهود فقالوا بلغنا أنك تقول: وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا أفعنيتنا أم قومك فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كلا عنيت» فقالوا: ألست تتلو فيما جاءك إنا أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء فقال عليه الصلاة والتحية: «وهي في علم الله تعالى قليل وقد أتاكم ما إن علمتم به نجوتم» «قالوا: يا محمد كيف تزعم هذا وأنت تقول: وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً [البقرة: ٢٦٩] فكيف يجتمع؟ فقال صلّى الله تعالى عليه وسلم: «هذا علم قليل وخير كثير» فأنزل الله تعالى هذه الآية
. وهذا نص في أن الآية مدنية، وقيل: المراد بها مقدوراته جلّ وعلا وعجائبه عزّ وجلّ التي إذا أراد سبحانه شيئا منها قال تبارك وتعالى: كُنْ فَيَكُونُ [البقرة: ١١٧ وغيرها] ومن ذلك قوله تعالى في عيسى: وَكَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ [النساء: ١٧١] وإطلاق الكلمات على ما ذكر من إطلاق السبب على المسبب، وعلى هذا وجه ربط الآية بما قبلها أظهر على ما قيل وهو أنه سبحانه لما قال: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وكان موهما لتناهي ملكه جلّ جلاله أردف سبحانه ذلك بما هو ظاهر بعدم التناهي وهذا ما اختاره الإمام المراد بكلماته تعالى إلّا أن في انطباقه على سبب النزول خفاء، وعن أبي مسلم المراد بها ما وعد سبحانه به أهل طاعته من الثواب وما أوعد جلّ شأنه به أهل معصيته من العقاب، وكأن الآية عليه بيان لأكثرية ما لم يظهر بعد من ملكه تعالى بعد بيان كثرة ما ظهر، وقيل: المراد بها ما هو المتبادر منها بناء على ما أخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وغيرهم عن قتادة قال: قال المشركون إنما هذا كلام يوشك أن ينفذ فنزلت وَلَوْ أَنَّما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ الآية، وفي وجه ربط الآية عليه بما قبلها وكذا بما بعدها خفاء جدا إلّا أنه لا يقتضي كونها مدنية، وإيثار الجمع المؤنث سالم بناء على أنه كجمع المذكر جمع قلة لأشعاره وإن اقترن بما قد يفيد معه الاستغراق والعموم من أل أو الإضافة نظرا لأصل وضعه وهو القلة بأن ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير. وقرأ الحسن «ما نفد» بغير تاء «كلام الله» بدل كلمات الله إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه جلّ شأنه شيء حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه تعالى وحكمته سبحانه شيء، والجملة تعليل لعدم نفاد كلماته تبارك وتعالى.
ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ أي إلّا كخلقها وبعثها في سهولة التأتي بالنسبة إليه عزّ وجلّ إذ لا

(١) قوله فقالوا تزعم عن ابن جريج أن القائل حيي بن أخطب اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon