الخلق فإن حدوث الليل والنهار منوط بتحريك أجرام سماوية، والتكوير في الأصل هو اللف واللّي من كار العمامة على رأسه وكورها، والمراد على ما روي عن قتادة يغشى أحدهما الآخر، وهو على ما قيل معنى يذهب أحدهما ويغشى مكانه الآخر أي يلبسه مكانه فيصير أسود مظلما بعد ما كان أبيض منيرا وبالعكس فالمغشى حقيقة المكان، ويجوز أن يكون المغشى الليل والنهار على الاستعارة ويكون المكان ظرفا، والمقصود أنه لما كان أحدهما غاشيا للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إياه واشتماله عليه وتغطيه به.
وتحقيقه أن أحدهما لما كان محيطا على جميع ما أحاط به الآخر من غير أن يكون ثم شيء زائد غير الظهور والخفاء جعل إحاطته على محاط الآخر إحاطة عليه مجاز ملابسته وعبر عنها بالغشيان والتكوير للشبه المذكور.
وجوز أن يكون المراد أن كل واحد من الليل والنهار يغيب الآخر إذا طرأ عليه فشبه في تغييبه إياه بشيء ظاهر لف عليه ما غيبه عن مطامح الأبصار ورجح الأول بأن فيه مع اعتبار الستر اعتبار اللّي وإحاطة الأطراف ثم إن هذا لظهوره تشبيه مبذول وأن يكون المراد أن هذا يكر على هذا كرورا متتابعا فشبه ذلك بتتابع أكوار العمامة بعضها على أثر بعض قيل وهو الأرجح لأنه اعتبر فيه ما اعتبر مع الأول مع النظر إلى المطرد فيه لفظ الكور فإنه لف بعد لف وهو أيضا كذلك إلا أن أكوار العمامة متظاهرة وفيما نحن فيه متعاورة وهذا مما لا بأس به فإن كل لية تسمى كورا حقيقة.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس أن المعنى يحمل أحدهما على الآخر، وفسر هذا الحمل بالضم والزيادة أي يزيد الليل على النهار ويضمه إليه بأن يجعل بعض أجزاء الليل نهارا فيطول النهار ويقصر الليل ويزيد النهار على الليل ويضمه إليه بأن يجعل سبحانه بعض أجزاء النهار ليلا فيطول الليل ويقصر النهار.
وإلى هذا ذهب الراغب وهو معنى واضح والآية عليه كقوله تعالى: يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ [الحج: ٦١، لقمان: ٢٩، فاطر: ١٣، الحديد: ٦] في قوله، وذكر بعض الفضلاء أنها على المعنى الأول فيها شيء من قوله تعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ [الفرقان: ٦٢] وعلى المعنى الثاني فيها شيء من قوله تعالى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [الليل: ١، ٢] وعلى الثالث شيء من قوله سبحانه:
يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً [الأعراف: ٥٤] وأنها يحتمل أن يكون فيها الاستعارة التبعية والمكنية والتخييلية والتمثيلية والتمثيل أولى بالاعتبار وأيا ما كان فصيغة المضارع للدلالة على التجدد.
وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ جعلهما منقادين لأمره عزّ وجلّ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى بيان لكيفية تسخيرهما أي كل منهما يجري لمنتهى دورته أو منقطع حركته، وقد مر تمام الكلام عليه، وفيه دليل على أن الشمس متحركة، وزعم بعض الكفرة أنها ساكنة وأنها مركز العالم وسمعت في هذه الأيام أنه ظهر في الإفرنج منذ سنتين تقريبا من يزعم أنها تتحرك على مركز آخر كما تتحرك الأرض عليها نفسها بزعمهم وزعم بعض المتقدمين، ولهم في الهيئة كلام غير هذا وفيه الغث والسمين إلا أن نفيهم السماوات الناطقة بها الشرائع بالكلية من العجب العجاب وأنظارهم السخيفة تفضي بهم إلى ما هو أعجب من ذلك عند ذوي العقول السليمة نسأل الله تعالى السلامة والتوفيق، ولي عزم على تأليف كتاب أبين فيه إن شاء الله تعالى ما هو الأقرب إلى الحق من الهيئتين القديمة والجديدة متحركا على محور الإنصاف ساكتا عن سلوك مسالك الاعتساف والله تعالى الموفق لذلك.
أَلا هُوَ الْعَزِيزُ القادر على عقاب المصرين الْغَفَّارُ لذنوب التائبين أو الغالب الذي يقدر أن يعاجلهم بالعقوبة وهو سبحانه يحمل عليهم ويؤخرهم إلى أجل مسمى فيكون قد سمي الحلم عنهم وقد ترك تعجيل العقوبة بالمغفرة التي هي ترك العقاب على طريق الاستعارة للمناسبة بينهما في الترك.


الصفحة التالية
Icon