ومن كذب اليهود وجهلهم بالتاريخ ما يعتقدونه في عبد الله بن سلام أنه صلّى الله عليه وسلّم حين سافر إلى الشام في تجارة لخديجة رضي الله تعالى عنها اجتمع بأحبار اليهود وقص عليهم أحلامه فعلموا أنه صاحب دولة فأصحبوه عبد الله بن سلام وبقي معه مدة فتعلم منه علم الشرائع والأمم السالفة وأفرطوا في الكذب إلى أن نسبوا القرآن المعجز إلى تأليف عبد الله بن سلام وعبد الله هذا مما ليس له إقامة بمكة ولا تردد إليها، ولم ير النبي صلّى الله عليه وسلّم إلا في المدينة وأسلم إذ قدمها عليه الصلاة والسلام أو قبل وفاته صلّى الله عليه وسلّم بعامين على ما حكاه في البحر عن الشعبي، فما أكذب اليهود وأبهتهم لعنهم الله تعالى، وناهيك من طائفة ما ذم في القرآن طائفة مثلها.
وأخرج سعيد بن منصور وابن جرير وابن المنذر عن مسروق أن الشاهد هو موسى بن عمران عليه الصلاة والسلام، وقد تقدم أنه كان يدّعي مكية الآية وينكر نزولها في ابن سلام ويقول: إنما كانت خصومة خاصم بها محمد صلّى الله عليه وسلّم، وكأنه على هذا لا يحتاج إلى القول بأنها نزلت بخصوص شاهد، وأيد عدم إرادة الخصوص بأن شاهِدٌ في الآية نكرة والنكرة في سياق الشرط تعم، وأنا أقول: بكون التنوين في شاهِدٌ للتعظيم وبمدنية الآية ونزولها في ابن سلام، والخطابات فيها مطلقا لكفار مكة، وربما يظن على بعض الروايات أنها لليهود وليس كذلك، وهم المعنيون أيضا بالذين كفروا في قوله تعالى: وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إلى آخره، وهو حكاية لبعض آخر من أقاويلهم الباطلة في حق القرآن العظيم والمؤمنين به. وفيه تحقيق لاستكبارهم أي وقال كفار مكة: لِلَّذِينَ آمَنُوا أي لأجلهم وفي شأنهم فاللام للتعليل كما سمعت في قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ [سبأ: ٤٣].
وقيل: هي لام المشافهة والتبليغ والتفتوا في قولهم: لَوْ كانَ أي ما جاء به صلّى الله عليه وسلّم من القرآن، وقيل: الإيمان خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ ولولاه لقالوا: سبقتمونا بالخطاب أو لما سمعوا أن جماعة آمنوا خاطبوا جماعة أخرى من المؤمنين أي قالوا للذين آمنوا لو كان خيرا ما سبقنا إليه أولئك الذين بلغنا إيمانهم.
وتعقب بأن هذا ليس من مواطن الالتفات، وكونهم قصدوا تحقير المؤمنين بالغيبة لا وجه له، وكون المشافهين طائفة من المؤمنين والمخبر عنهم طائفة أخرى خلاف الظاهر، فالأولى كونها للتعليل وقالوا ذلك لما رأوا أن أكثر المؤمنين كانوا فقراء ضعفاء كعمار وصهيب وبلال وكانوا يزعمون أن الخير الديني يتبع الخير الدنيوي وأنه لا يتأهل للأول إلا من كان له القدح المعلى من الثاني، ولذا قالوا: لَوْلا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ [الزخرف: ٣١] وخطؤهم في ذلك مما لا يخفى.
وأخرج ابن المنذر عن عون بن أبي شداد قال: كانت لعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أمة أسلمت قبله يقال لها زنيرة (١) فكان رضي الله تعالى عنه يضربها على إسلامها وكان كفار قريش يقولون: لو كان خيرا ما سبقتنا إليه زنيرة فأنزل الله تعالى في شأنها وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا الآية، ولعلهم لم يريدوا زنيرة بخصوصها بل من شابهها أيضا.
وفي الآية تغليب المذكر على المؤنث، وقال أبو المتوكل: أسلم أبو ذر ثم أسلمت غفار فقالت قريش ذلك، وقال الكلبي والزجاج. قال ذلك بنو عامر بن صعصعة وغطفان وأسد وأشجع لما أسلم أسلم وجهينة ومزينة وغفار وقال الثعلبي: هي مقالة اليهود حين أسلم ابن سلام، وأصحابه منهم، ويلزم عليه القول بأن الآية مدنية وعدها في المستثنيات أو كون قالَ فيها كنادى في قوله تعالى: وَنادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ [الأعراف: ٤٨] وهذا كما ترى والمعول عليه ما تقدم وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ أي بالقرآن، وقيل: بالرسول صلّى الله عليه وسلّم، و «إذ» على ما اختاره جار الله ظرف لمقدر دل

(١) بالنون ووقع في أصل المؤلف «زبيرة» بالباء الموحدة وهو غلط صححناه من الإصابة.


الصفحة التالية
Icon