هذا يحتاج إلى توجيه وقد فتحت على أيدي أهل الحديبية لم يشركهم أحد من المتخلفين عنها فالفتح على حقيقة وإسناده إليه تعالى على حد ما سمعت فيما تقدم، والتأكيد بأن وتكرير الحكم للاعتناء، والتعبير عن ذلك بالماضي مع أنه لم يكن واقعا يوم النزول بناء على ما روي عن المسور بن مخرمة من أن السورة نزلت من أولها إلى آخرها بين مكة والمدينة من باب مجاز المشارفة نحو من قتل قتيلا على المشهور أو الأول نحو إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً [يوسف:
٣٦] ولا يضر اختلافهما في الفعلية والاسمية وفيه وجه آخر يعلم مما سيأتي إن شاء الله تعالى. وذهب جماعة إلى أنه فتح مكة وهو كما في زاد المعاد الفتح الأعظم الذي أعز الله تعالى به دينه واستنقذ به بلده وطهر حرمه واستبشر به أهل السماء وضربت أطناب عزه على مناكب الجوزاء ودخل الناس بعده في دين الله عز وجل أفواجا وأشرق وجه الدهر ضياء وابتهاجا، وكان سنة ثمان وفي رواية ونصف، وقد خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما أخرجه أحمد بإسناد صحيح عن أبي سعيد لليلتين خلتا من شهر رمضان، وفتح مكة لثلاث عشرة خلت منه على ما روي عن الزهري، وروي عن جماعة أنه كان الفتح في عشر بقيت من شهر رمضان وقيل غير ذلك، وكان معه صلّى الله عليه وسلّم من المسلمين عشرة آلاف وقيل: إثنا عشر ألفا، والجمع ممكن، وكان الفتح عند الشافعي صلحا وهي رواية عن أحمد للتأمين في ممر الظهران بمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن ومن دخل المسجد فهو آمن، ولعدم قسمة الدور بين الغانمين، وذهب الأكثرون إلى أنه عنوة للتصريح بالأمر بالقتال ووقوعه من خالد بن الوليد
وقوله، عليه الصلاة والسلام: «أحلت لي ساعة من نهار»
ولا يسمى ذلك التأمين صلحا إلا إذا التزم من أشير إليه به الكف عن القتال، والأخبار الصحيحة ظاهرة في أن قريشا لم يلتزموا، وترك القسمة لا يستلزم عدة العنوة فقد تفتح البلدة عنوة ويمن على أهلها وتترك لهم دورهم.
وأقام عليه الصلاة والسلام بعد الفتح خمس عشرة ليلة في رواية البخاري وسبع عشرة في رواية أبي داود وثمان عشرة في رواية الترمذي، وتسع عشرة في رواية بعض، وتمام الكلام في كتب السير، واستظهر هذا القول أبو حيان وذكر أنه المناسب لآخر السورة التي قبل لما قال سبحانه: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ [محمد: ٣٨] الآية فبين جل وعلا أنه فتح لهم مكة وغنموا وحصل لهم أضعاف ما أنفقوا ولو بخلوا لضاع عليهم ذلك فلا يكون بخلهم إلا على أنفسهم، وأيضا لما قال سبحانه: وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ [محمد: ٣٥] بين تعالى برهانه بفتح مكة فإنهم كانوا هم الأعلين، وأيضا لما قال تعالى: فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ [محمد: ٣٥] كان ذلك في فتح مكة ظاهرا حيث لم يلحقهم وهن ولا دعوا إلى الصلح بل أتى صناديد قريش مستأمنين مستسلمين وهذا ظاهر بالنسبة إلى القول بأن المراد به فتح الحديبية، وأما على القول بأن المراد به فتح خيبر فليس كذلك، ورجح بعضهم القول بأنه صلح الحديبية على القول بأنه فتح مكة بأن وعدم فتح مكة يجيء صريحا في هذه السورة الكريمة وذلك قوله تعالى: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ [الفتح: ٢٧] الآية فلو حمل هذا الفتح عليه لكان تأكيدا بخلاف ما إذا حمل على صلح الحديبية فإنه يكون تأسيسا والتأسيس خير من التأكيد، ورجحه بعض على القول بأنه فتح خيبر بمثل هذا لأن فتح خيبر مذكور فيما بعد أيضا، وللبحث في ذلك مجال، وان التكرير لما تقدم، وكذا الإسناد إلى ضمير العظمة بل هذا الفتح أولى بالاعتناء وتعظيم الشأن حتى قيل: إن اسناده إليه تعالى لكونه من الأمور الغريبة العجيبة التي يخلقها الله تعالى على يد أنبيائه عليهم السلام كالرمي بالحصى المشار إليه بقوله تعالى:
وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى [الأنفال: ١٧] وهذا خلاف ظاهر، والمشهور أن في الكلام مجازا عقليا وفيه الاحتمالات السابقة.
وقال بعض المحققين: يمكن أن يقال: لعل الإرادة هاهنا معتبرة إما على سبيل الحذف أو على المجاز المرسل