نزلت فيهم الآية على ما روي عن الحسن وإنما كان الرفع منه طبيعة لما أنه كان في أذنه صمم وعادة كثير ممن به ذلك رفع الصوت، والظاهر أنه بعد نزولها ترك هذه العادة،
فقد أخرج الطبراني والحاكم وصححه أن عاصم بن عدي ابن العجلان أخبر النبي صلّى الله عليه وسلّم بحاله فأرسله إليه فلما جاء قال: ما يبكيك يا ثابت؟ فقال: أنا صيت وأتخوف أن تكون هذه الآية نزلت في فقال له عليه الصلاة والسلام: أما ترضى أن تعيش حميدا وتقتل شهيدا وتدخل الجنة؟ قال: رضيت ولا أرفع صوتي أبدا على صوت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
واستدل العلماء بالآية على المنع من رفع الصوت عند قبره الشريف صلّى الله عليه وسلّم، وعند قراءة حديثه عليه الصلاة والسلام لأن حرمته ميتا كحرمته حيا. وذكر أبو حيان كراهة الرفع أيضا بحضرة العالم، وغير بعيد حرمته بقصد الإيذاء والاستهانة لمن يحرم إيذاؤه والاستهانة به مطلقا لكن للحرمة مراتب متفاوتة كما لا يخفى.
وقوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ إلخ ترغيب في الانتهاء عما نهوا عنه بعد الترهيب عن الإخلال به أي يحفظونها مراعاة للأدب أو خشية من مخالفة النهي أُولئِكَ إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة، وما فيه من معنى البعد مع قرب العهد بالمشار إليه لما مر مرارا من تفخيم شأنه وهو مبتدأ خبره الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى والجملة خبر إن، وأصل معنى الامتحان التجربة والاختبار، والمراد به هنا لاستحالة نسبته إليه تعالى التمرين بعلاقة اللزوم أي إنهم مرن الله تعالى قلوبهم للتقوى. وفي الكشف الامتحان كناية تلويحية عن صبرهم على التقوى وثباتهم عليها وعلى احتمال مشاقها لأن الممتحن جرب وعود منه الفعل مرة بعد أخرى فهو دال على التمرن الموجب للاضطلاع، والإسناد إليه تعالى للدلالة على التمكين، ففيه على ما قيل مع الكناية تجوز في الإسناد والأصل امتحنوا قلوبهم للتقوى بتمكين الله تعالى لهم، وكأنه إنما اعتبر ذلك لأنه لا يجوز إرادة المعنى الموضوع له هنا فلا يصح كونه كناية عند من يشترط فيها إرادة الحقيقة، ومن اكتفى فيها بجواز الإرادة وإن امتنعت في محل الاستعمال لم يحتج إلى ذلك الاعتبار. واختار الشهاب كون الامتحان مجازا عن الصبر بعلاقة اللزوم، وحاصل المعنى عليه كحاصله على الكناية أي إنهم صبر على التقوى أقوياء على مشاقها أو المراد بالامتحان المعرفة كما حكي عن الجبائي مجازا من باب إطلاق السبب وإرادة المسبب، والمعنى عرف الله قلوبهم للتقوى، وإسناد المعرفة إليه عز وجل بغير لفظها غير ممتنع وهو في القرآن الكريم شائع، على أن الصحيح جواز الإسناد مطلقا لما في نهج البلاغة من إطلاق العارف عليه تعالى، وقد ورد في الحديث أيضا على ما ادعاه بعض الأجلة، واللام صلة لمحذوف وقع حالا من قُلُوبَهُمْ أي كائنة للتقوى مختصة بها، فهو نحو اللام في قوله:

وقصيدة رائقة ضوعتها أنت لها أحمد من بين البشر
وقوله:
أعداء من لليعملات على الوجى وأضياف ليل بيتوا للنزول
أو هي صلة لامتحن، باعتبار معنى الاعتياد أو المراد ضرب الله تعالى قلوبهم بأنواع المحن والتكاليف الشاقة لأجل التقوى أي لتظهر ويعلم أنهم متقون إذ لا تعلم حقيقة التقوى إلا عند المحن والاصطبار عليها، وعلى هذا فالامتحان هو الضرب بالمحن، واللام للتعليل على معنى أن ظهور التقوى هو الغرض والعلة وإلا فالصبر على المحنة مستفاد من التقوى لا العكس، أو المراد أخلصها للتقوى أي جعلها خالصة لأجل التقوى أو أخلصها لها فلم يبق لغير التقوى فيها حق كأن القلوب خلصت ملكا للتقوى، وهذا أبلغ وهو استعارة من امتحان الذهب وإذابته ليخلص ابريزه من خبثه وينقى أو تمثيل، وتفسير امْتَحَنَ بأخلص رواه ابن جرير وجماعة عن مجاهد، وروي ذلك أيضا عن


الصفحة التالية
Icon