أريد بذلك تحققها في علمه جل شأنه فيسره لأنه من مقتضيات ذاته عز وجل، وفي الآية رد على هشام بن الحكم الزاعم أنه سبحانه لا يعلم الحوادث قبل وقوعها، وفي الإكليل إن فيها ردا على القدرية، وجاء ذلك في خبر مرفوع،
أخرج الديلمي عن سليم بن جابر الجهيمي قال: قال رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم: «سيفتح على أمتي باب من القدر في آخر الزمان لا يسدّه شيء يكفيكم منه أن تلقوه بهذه الآية ما أصاب من مصيبة» الآية.
وأخرج الإمام أحمد والحاكم وصححه عن أبي حسان أن رجلين دخلا على عائشة رضي الله تعالى عنها فقالا:
«إن أبا هريرة يحدث أن نبي الله صلى الله تعالى عليه وسلم كان يقول إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار فقالت:
والذي أنزل القرآن على أبي القاسم صلى الله تعالى عليه وسلم ما هكذا كان يقول، ولكن كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول:
كان أهل الجاهلية يقولون: إنما الطيرة في المرأة والدابة والدار
، ثم قرأت ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ الآية لِكَيْلا تَأْسَوْا أي أخرناكم بذلك لئلا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ أي أعطاكموه الله تعالى منها فإن من علم أن الكل مقدر يفوت ما قدر فواته ويأتس ما قدّر إتيانه لا محالة لا يعظم جزعه على ما فات ولا فرحه بما هو آت، وعلم كون الكل مقدرا مع أن المذكور سابقا المصائب دون النعم وغيرها لأنه لا قائل بالفرق وليس في النظم الكريم اكتفاء كما توهم، نعم إن حملت المصيبة على الحوادث من خير وشر كان أمر العلم أوضح كما لا يخفى وترك التعادل بين الفعلين في الصلتين حيث لم يسندا إلى شيء واحد بل أسند الأول إلى ضمير الموصول والثاني إلى ضميره تعالى لأن الفوات والعدم ذاتي للأشياء فلو خليت ونفسها لم تبق بخلاف حصولها وبقائها فإنه لا بد من استنادهما إليه عز وجل كما حقق في موضعه. وعليه قول الشاعر:

فلا تتبع الماضي سؤالك لم مضى وعرج على الباقي وسائله لم بقي
ومثل هذه القراءة قراءة عبد الله- أوتيتم- مبنيا للمفعول أي أعطيتم وقرأ أبو عمرو- أتاكم- من الإتيان أي جاءكم وعليها بين الفعلين تعادل، والمراد نفي الحزن المخرج إلى ما يذهل صاحبه عن الصبر والتسليم لأمر الله تعالى ورجاء ثواب الصابرين ونفي الفرح المطغى الملهى عن الشكر، وأما الحزن الذي لا يكاد الإنسان يخلو منه مع الاستسلام والسرور بنعمة الله تعالى والاعتداد بها مع الشكر فلا بأس بهما.
أخرج جماعة منهم الحاكم وصححه عن ابن عباس أنه قال في الآية: ليس أحد إلا هو يحزن ويفرح ولكن من أصابته مصيبة جعلها صبرا ومن أصابه خير جعله شكرا، وقوله تعالى: وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ تذييل يفيد أن الفرح المذموم هو الموجب للبطر والاختيال والمختال المتكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه، والفخور المباهي في الأشياء الخارجة عن المرء كالمال والجاه.
وذكر بعضهم أن الاختيال في الفعل والفخر فيه وفي غيره، والمراد من لا يحب يبغض إذ لا واسطة بين الحب والبغض في حقه عز وجل وأولا بالإثابة والتعذيب، ومذهب السلف ترك التأويل مع التنزيه، ومن لا يحب كل مختال لا يحب كل فرد فرد من ذلك لا أنه لا يحب البعض دون البعض ويرد بذلك على الشيخ عبد القاهر في قوله: إذا تأملنا وجدنا إدخال كل في حيز النفي لا يصلح إلا حيث يراد أن بعضا كان وبعضا لم يكن، نعم إن هذا الحكم أكثري لا كلي، وقوله تعالى: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ يدل من كُلَّ مُخْتالٍ بدل لك من كل فإن المختال بالمال يضن به غالبا ويأمر غيره بذلك، والظاهر أن المراد أنهم يأمرون حقيقة، وقيل: كانوا قدوة فكأنهم يأمرون أو هو خبر مبتدأ محذوف أي هم الذين إلخ، أو مبتدأ خبره محذوف تقديره يعرضون عن الإنفاق الغني عنه الله عز وجل، ويدل عليه قوله تعالى: وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإن معناه ومن يعرض عن الإنفاق فإن الله


الصفحة التالية
Icon