إظهارا لتقدمه واعتبارا لترؤسه، وأنه المتكلم عنهم والذي يصدرون عن رأيه ولا يستبدون بأمر دونه فكان هو وحده في حكمهم كلهم وسادا مسد جميعهم، وفي ذلك من إظهار جلالة منصبه عليه الصلاة والسلام ما فيه، ولذلك اختير لفظ النَّبِيُّ لما فيه من الدلالة على علو مرتبته صلّى الله تعالى عليه وسلم، وقيل: الخطاب كالنداء له صلّى الله تعالى عليه وسلم إلا أنه اختير ضمير الجمع للتعظيم نظير ما في قوله:
ألا فارحموني يا إله محمد وقيل: إنه بعد ما خاطبه عليه الصلاة والسلام بالنداء صرف سبحانه الخطاب عنه لأمته تكريما له صلّى الله تعالى عليه وسلم لما في الطلاق من الكراهة فلم يخاطب به تعظيما، وجعل بعضهم الكلام على هذا بتقدير القول أي قل لأمتك: إِذا طَلَّقْتُمُ، وقيل: حذف نداء الأمة، والتقدير يا أيها النبي وأمة النبي إذا طلقتم، وأيا ما كان فالمعنى إذا أردتم تطليقهن على تنزيل المشارف للفعل منزلة الشارع فيه، واتفقوا على أنه لولا هذا التجوز لم يستقم الكلام لما فيه من تحصيل الحاصل، أو كون المعنى إذا طلقتم فطلقوهن مرة أخرى وهو غير مراد، وقال بعض المحققين: لك أن تقول: لا حاجة إلى ذلك بل هو من تعليق الخاص بالعام وهو أبلغ في الدلالة على اللزوم كما يقال: إن ضربت زيدا فاضربه ضربا مبرحا لأن المعنى إن يصدر منك ضرب فليكن ضربا شديدا، وهو أحسن من تأويله بالإرادة فتدبر انتهى، وأنت تعلم أن المتبادر فيما ذكره كونه على معنى الإرادة أيضا فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ أي لاستقبال عدتهن، واللام للتوقيت نحو كتبته لأربع ليال بقين من جمادى الأولى، أو مستقبلات لها على ما قدره الزمخشري، وتعقبه أبو حيان بما فيه نظر (١) واعتبار الاستقبال- رأي من يرى أن العدة بالحيض وهي القروء في آية البقرة- كالإمام أبي حنيفة- ليكون الطلاق في الطهر وهو الطلاق المأمور به، والمراد بالأمر بإيقاعه في ذلك النهي عن إيقاعه في الحيض.
وقد صرحوا جميعا بأن ذلك الطلاق بدعيّ حرام، وقيد الطهر بكونه لم يجامعن فيه، واستدل لذلك، ولاعتبار الاستقبال بما أخرجه الإمامان: مالك والشافعي والشيخان وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجة وآخرون عن ابن عمر «أنه طلق امرأته وهي حائض فذكر ذلك عمر رضي الله تعالى عنه لرسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم فتغيظ فيه رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم ثم قال: ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهرا قبل أن يمسها فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يطلق لها النساء.
وقرأ النبي صلّى الله تعالى عليه وسلم- يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن في قبل عدتهن-
وكان ابن عمر كما أخرج عنه ابن المنذر وغيره يقرأ كذلك، وكذلك ابن عباس، وفي رواية عنهما أنهما قرآ لقبل عدتهن ومن يرى أن العدة بالاطهار- وهي القروء- في تلك الآية كالإمام الشافعي يعلق لام التوقيت بالفعل ولا يعتبر الاستقبال، واعترض على التأويل بمستقبلات لعدتهن بأنه إن أريد التلبس بأولها فهو الشافعي، ومن يرى رأيه لا عليه وعلى المخالف لا له، وإن أريد المشارفة عادة فخلاف مقتضى اللفظ لأن اللام إذا دخلت الوقت أفادت معنى التأقيت والاختصاص بذلك الوقت لا استقبال الوقت، وعلى الاستدلال بقراءة رسول الله صلّى الله تعالى عليه وسلم حسبما تضمنه الحديث السابق بأن قبل الشيء أوله نقيض دبره فهي مؤكدة لمذهب الشافعي لا دافعة له، ويشهد لكون العدة بالأطهار قراءة ابن مسعود- لقبل طهرهن- ومنهم من قال: التقدير لأطهار عدتهن، وتعقب بأنه إن جعلت الإضافة بمعنى- من- دل على

(١) وهو أنه لا يحذف متعلق الظرف إذا كان كونا خاصا، فالصحيح تقدير المضاف، وفيه أنه إذا كانت قرينة جاز حذف كل وإلا امتنع حذف كل اهـ. منه.


الصفحة التالية
Icon