مِنَّا وخرج صاحب اللوامح نصب واحِداً على هذا أيضا، وأما رفع بشر فخرجه على الابتداء وإضمار الخبر أي أبشر منا يبعث إلينا أو يرسل أو نحوهما، وتقدم الاستفهام يرجع تقدير فعل يرفع به إِنَّا إِذاً أي إذا اتبعنا بشرا منا واحدا لَفِي ضَلالٍ عظيم عن الحق وَسُعُرٍ أي نيران جمع سعير.
وروي أن صالحا عليه السلام كان يقول لهم: إن لم تتبعوني كنتم في ضلال عن الحق وسعر فعكسوا عليه لغاية عتوهم فقالوا: إن اتبعناك كنا إذا كما تقول
، فالكلام من باب التعكيس والقول بالموجب، وجمع السعير باعتبار الدركات، أو للمبالغة، وروي عن ابن عباس ما يحتمل ما قلنا فإنه قال: أي لفي بعد عن الحق وعذاب، وفي رواية أخرى عنه تفسير السعر بالجنون على أنه اسم مفرد بمعنى ذلك يقال: ناقة مسعورة إذا كانت تفرط في سيرها كأنها مجنونة قال الشاعر:

كأن بها سعرا إذا العيس هزها ذميل وإرخاء من السير متعب
والأول أوجه وأفصح أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا أي أأنزل عليه الوحي من بيننا وفينا من هو أحق منه بذلك، والتعبير بألقي دون أنزل قل: لأنه يتضمن العجلة في الفعل بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ أي شديد البطر وهو على ما قال الراغب: دهش يعتري من سوء احتمال النعمة وقلة القيام بحقها ووضعها إلى غير وجهها، ويقاربه الطرب وهو خفة أكثر ما تعتري من الفرح، ومرادهم ليس الأمر كذلك بل هو كذا وكذا حمله شدّة بطره وطلبه التعظيم عليها على ادعاء ذلك، وقرأ قتادة. وأبو قلابة- بل هو الكذب الأشر- بلام التعريف فيهما وبفتح الشين وشدّ الراء، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما في ذلك، وقوله تعالى: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ حكاية لما قاله سبحانه وتعالى لصالح عليه السلام وعدا له ووعيدا لقومه، والسين لتقريب مضمون الجملة وتأكيده، والمراد بالغد وقت نزول العذاب الدنيوي بهم، وقيل: يوم القيامة فهو لمطلق الزمان المستقبل وعبر به لتقريبه، وعليه قول الطرماح:
ألا عللاني قبل نوح النوائح وقبل اضطراب النفس بين الجوانح
وقبل غد يا لهف نفسي على غد إذا راح أصحابي ولست برائح
أي سَيَعْلَمُونَ البتة عن قريب مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الذي حمله أشره وبطره على ما حمله أصالح أن من كذبه، والمراد سيعلمون أنهم هم الكذابون الأشرون لكن أورد ذلك مورد الإبهام ايماء إلى أنه مما لا يكاد يخفى، ونحوه قول الشاعر:
فلئن لقيتك خاليين لتعلمن أيّي وأيّك فارس الأحزاب
وقرأ ابن عامر وحمزة وطلحة وابن وثاب والأعمش- ستعلمون- بتاء الخطاب على حكاية ما قال لهم صالح مجيبا لهم، وفي الكشاف أو هو كلام على سبيل الالتفات، قال صاحب الكشف: أي هو كلام الله تعالى لقوم ثمود على سبيل الالتفات إليهم إما في خطابه تعالى لرسولنا صلى الله تعالى عليه وسلم وهو نظير ما حكاه سبحانه عن شعيب فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ [الأعراف: ٩٣] بعد ما استؤصلوا هلاكا وهو من بليغ الكلام فيه دلالة على أنهم أحقاء بهذا الوعيد وكأنهم حضور في المجلس حول إليهم الوجه لينعي عليهم جناياتهم. وإما في خطابه عز وجل لصالح عليه السلام والمنزل حكاية ذلك الكلام المشتمل على الالتفات. وعلى التقديرين لا إشكال فيه كما توهم ولفظ الزمخشري على الأول أدل وهو أبلغ انتهى، ومن التفت إلى ما قاله الجمهور في الالتفات لا أظنه تسكن نفسه بما ذكر فتأمل، وقرأ مجاهد فيما ذكره صاحب اللوامح وأبو قيس الأودي «الأشر» بثلاث ضمات وتخفيف الراء. ويقال: أشر وأشر كحذر وحذر فضمة الشين لغة وضم الهمزة تبع لها.


الصفحة التالية
Icon