عنهما «أنى صببنا» بفتح الهمزة والإمالة
على معنى فلينظر الإنسان كيف صببنا الماء صَبًّا عجيبا ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ أي بالنبات كما قال ابن عباس شَقًّا بديعا لائقا بما يشقها من النبات صغرا وكبرا وشكلا وهيئة.
وقيل: شقها بالكراب وإسناده إلى ضميره تعالى مجاز من باب الإسناد إلى السبب وإن كان الله تعالى عز وجل هو الموجد حقيقة فقد تبين في موضعه أن إسناد الفعل حقيقة لمن قام به لا من صدر عنه إيجادا ولهذا يشتق اسم الفاعل له وتعقب بأنه يأباه كلمة ثم والفاء في قوله تعالى فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا فإن الشق بالمعنى المذكور لا ترتب بينه وبين الإمطار أصلا ولا بينه وبين إنبات الحب بلا مهلة فإن المراد بالنبات ما نبت من الأرض إلى أن يتكامل النمو وينعقد الحب فإن انشقاق الأرض بالنبات لا يزال يتزايد ويتسع إلى تلك المرتبة على أن مساق النظم الكريم لبيان النعم الفائضة من جنابه تعالى على وجه بديع خارج عن العادات المعهودة كما ينبىء منه إرداف الفعلين بالمصدرين فتوسيط فعل المنعم عليه في حصول تلك النعم مخل بالمرام وللبحث فيه مجال. وقيل عليه أيضا إن الشق بالكراب لا يظهر في العنب والزيتون والنخل وأجيب بأنه ليس من لوازم العطف تقييد المعطوف بجميع ما قيد به المعطوف عليه ويحتمل أن يكون ذكر الكراب في القيل على سبيل التمثيل، أو أريد به ما يشمل الحفر وجوز أن يكون المراد شقها بالعيون على أن المراد بصب الماء إمطار المطر وبهذا إجراء الأنهار، وتعقب بأنه يأباه ترتب الشق على صب الماء بكلمة التراخي وأيضا ترتيب الإنبات على مجموع الصب والشق بالمعنى المذكور لا يلائم قوله تعالى وَأَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا [النبأ: ١٤، ١٥] الآية لإشعارة باستقلال الصب وإنزال الغيث في ذلك، ودفعا بأن ماء العيون من المطر لا من الأبخرة المحتبسة في الأرض ولا يخفى على ذي عين أن هذا الوجه بعيد متكلف. والمراد بالحب جنس الحبوب التي يتقوت بها وتدخر كالحنطة والشعير والذرة وغيرها وَعِنَباً معروف وَقَضْباً أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه قال هو الفصفصة وقيدها الخليل بالرطبة وقال:
إذا يبست فهي القت وسميت بمصدر قضبه أي قطعة مبالغة كأنها لتكرر قطعها وتكثره نفسه القطع، وضعف هذا من فسر الأب بما يشمل ذلك وقيل هو كل ما يقضب ليأكله ابن آدم غضا من النبات كالبقول والهليون.
وفي البحر عن الحبر إنه الرطب وهو يقضب من النخل واستأنس له بذكره مع العنب ولا يخفى ما فيه وَزَيْتُوناً وَنَخْلًا هما معروفان وَحَدائِقَ رياضا غُلْباً أي عظاما وأصله جمع أغلب وغلباء صفة العنق وقد يوصف به الرجل لكن الأول هو الأغلب ومنه قول الأعشى:

يمشي بها غلب الرقاب كأنهم بزل كسين من الكحيل (١) جلالا
ووصف الحدائق بذلك على سبيل الاستعارة شبه تكاثف أوراق الأشجار وعروقها بغلظ الأوداج وانتفاخ الأعصاب مع اندماج بعضها في بعض في غلظ الرقبة إلا أن الغلظ في الأشجار أقوى لأن الأمر بالعكس نظرا إلى الاندماج وتقوّي البعض بالبعض حتى صارت شيئا واحدا، وجوز أن يكون هناك مجاز مرسل كما في المرسن بأن يراد بالأغلب الغليظ مطلقا، وتجوز في الإسناد أيضا لأن الحدائق نفسها ليست غليظة بل الغليظ أشجارها. وقال بعض: المراد بالحدائق نفس الأشجار لمكان العطف على ما في حيز أنبتنا فلا تغفل وَفاكِهَةً قيل هي الثمار كلها وقيل بل هي الثمار ما عدا العنب والرمان وأيّا ما كان فذكر ما يدخل فيها
(١) الكحيل مصغر وهو النفط يطلى به الجرب اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon