وسميت نجد به لارتفاعها عن انخفاض تهامة والامتنان المحدث عنه بأن هداه سبحانه وبيّن له تعالى شأن ما إن سلكه نجا وما إن سلكه هلك، ولا يتوقف الامتنان على سلوك طريق الخير. وقد جعل الإمام هذه الآية كقوله تعالى إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً [الإنسان: ٣] ووصف سبيل الخير بالرفعة والنجدية ظاهر بخلاف سبيل الشرفان فيه هبوطا من ذروة الفطرة إلى حضيض الشقاوة فهو على التغليب أو على توهم المتخيلة له صعودا ولذا استعمل الترقي في الوصول إلى كل شيء وتكميله كذا قيل. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم من طرق عن ابن عباس أنهما الثديان وروي ذلك عن ابن المسيب أي ثديي الأم لأنهما كالطريقين لحياة الولد ورزقه والارتفاع فيهما ظاهر والبطن تحتهما كالغور، والعرب تقسم بثديي الأم فتقول: أما ونجديها ما فعلت. ونسب هذا التفسير لعليّ كرم الله تعالى وجهه أيضا. والمذكور في الدر المنثور من رواية الفريابي وعبد بن حميد وكذا
في مجمع البيان عنه كرم الله تعالى وجهه أن أناسا يقولون: إن النجدين الثديان، فقال: لا هما الخير والشر.
ولعل القائل بذلك رأى أن اللفظ يحتمله مع ظهور الامتنان عليه جدا فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ الاقتحام الدخول بسرعة وضغط وشدة ويقال: قحم في الأمر قحوما رمى نفسه فيه من غير روية.
والعقبة الطريق الوعر في الجبل وفي البحر هي ما صعب منه وكان صعودا، والجمع عقب وعقاب وهي هنا استعارة لما فسرت به من الأعمال الشاقة المرتفعة القدر عند الله تعالى والقرينة ظاهرة وإثبات الاقتحام المراد به الفعل والكسب ترشيح، ويجوز أن يكون قد جعل فعل ما ذكر اقتحاما وصعودا شاقا وذكره بعد النجدين جعل الاستعارة في الذروة العليا من البلاغة والمراد ذم المحدث عنه بأنه مقصر مع ما أنعم الله تعالى به عليه من النعم العظام والأيادي الجليلة الجسام كأنه قيل فقصر ولم يشكر تلك النعم العظيمة والأيادي الجسيمة بفعل الأعمال الصالحة بل غمط النعمة وكفر بالمنعم واتبع هوى نفسه. وقوله تعالى وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي أي شيء أعلمك ما هي تعظيم لشأن العقبة المفسرة بقوله سبحانه فَكُّ رَقَبَةٍ إلخ وتفسيرها بذلك بناء على الادعاء والمجاز وهو مما لا شبهة في صحته وإن لم يتحد العقبة والفك حقيقة فلا حاجة إلى تقدير مضاف كما زعمه الإمام ليصح التفسير، أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ وقال بعضهم: يحتمل أن يراد بالعقبة نفس الشكر عبر بها عنه لصعوبته ولا يأباه وما أَدْراكَ إلخ لأنه بمنزلة ما أدراك ما الشكر فَكُّ رَقَبَةٍ وهو كما ترى. وأخرج ابن أبي حاتم وابن جرير وابن أبي شيبة عن ابن عمر أن العقبة جبل زلال في جهنم. وأخرج ابن جرير عن الحسن نحوه. وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنها النار وفي رواية عبد بن حميد عنه أنها عقبة بين الجنة والنار، وعن مجاهد والضحاك والكلبي أنها الصراط وقد جاء في صفته ما جاء، ولعل المراد بعقبة بين الجنة والنار هذا. وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن أبي رجاء أنه قال: بلغني أن العقبة التي ذكر الله تعالى في القرآن مطلعها سبعة آلاف سنة ومهبطها سبعة آلاف سنة، وهذه الأقوال إن صحت يتعين عليها أن يراد بالاقتحام المرور والجواز بسرعة وأن يقدر المضاف أي وما أدراك ما اقتحام العقبة فك إلخ. وجعل الفك وما عطف عليه نفس الاقتحام على سبيل المبالغة في سببيته له حتى كأنه نفسه، ومآل المعنى فلا فعل ما ينجو به ويجوز بسببه العقبة الكؤود يوم القيامة وبهذا يندفع ما نقله الإمام عن الواحدي بعد نقله تفسيرها بجبل زلال في جهنم وبالصراط ونحو ذلك وهو قوله. وفي هذا التفسير نظر لأن من المعلوم أن هذا الإنسان وغيره لم يقتحموا عقبة جهنم ولا جاوزوها فحمل الآية عليه يكون إيضاحا للواضحات ثم قال: ويدل عليه أنه لما قال سبحانه وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ فسرها جل شأنه بفك الرقبة والإطعام انتهى. نعم أنا لا أقول بشيء من ذلك حتى تصح فيه تفسيرا للآية رواية مرفوعة. والفك تخليص شيء من شيء قال الشاعر:


الصفحة التالية
Icon