الله تعالى قالوه على سبيل التهكم والسخرية، وحين رد عليهم قصد ما يشعر به اللفظ على التحقيق. وقيل: إن الترك مطلق في كلامهم والظاهر من حالهم أنهم لم يريدوا الماهية من حيث هي ولا من حيث تحققها في ضمن ما لا يخل بشريف مقامه عليه الصلاة والسلام بل الماهية من حيث تحققها في ضمن ما يخل بذلك، ولما كان المقصود إيناسه صلّى الله عليه وسلم وإزالة وحشته عليه الصلاة والسلام جيء بما يتضمن نفي ما زعموه على أبلغ وجه كأنه قيل: إن هذا النوع الغير المخل بمقامك من الترك لم يكن فضلا عما زعموه من الترك المخل بعزيز مقامك وعندي أن الظاهر أن ذلك القول بأي معنى كان صادر على سبيل التهكم إذا كان المراد بالرب هو الله عز وجل وكان القائل من المشركين كما لا يخفى على المتأمل. وقرأ عروة بن الزبير وابنه هشام وأبو حيوة وأبو بحرية وابن أبي عبلة «ما ودعك» بالتخفيف وهي على ما قال ابن جني قراءة النبيّ صلّى الله عليه وسلم وخرجت على أن ودع مخفف ودع ومعناه معناه. قال في القاموس: ودعه كوضعه وودع بمعنى، وقيل: ليس بمخففة بل هو فعل برأسه بمعنى ترك وأنه يعكر على قول النحاة أماتت العرب ماضي يدع ويذر ومصدرهما واسم فاعلهما واسم مفعولهما واستغنوا بما ليترك من ذلك. وفي المغرب أن النحاة زعموا أن العرب أماتت ذلك والنبي صلّى الله عليه وسلم أفصحهم
وقد قال عليه الصلاة والسلام: «لينتهين أقوام عن ودعهم الجماعات»
وقرأ ما وَدَّعَكَ وقال أبو الأسود:

ليت شعري عن خليلي ما الذي غاله في الحب حتى ودعه
ومثله قول آخر:
وثم ودعنا آل عمرو وعامر فرائس أطراف المثقفة السمر
وهو دليل أيضا على استعمال ودع وهو بمعنى ترك المتعلق بمفعولين فلا تغفل.
وفي الحديث: «اتركوا الترك ما تركوكم ودعوا الحبشة ما ودعكم»
وفي المستوفى أن كل ذلك قد ورد في كلام العرب ولا عبرة بكلام النحاة. وإذا جاء نهر الله بطل نهر معقل. نعم وروده نادر وقال الطيبي: بعد أن ذكر وروده نظما ونثرا إنما حسن هذه القراءة الموافقة بين الكلمتين يعني هذه وما بعدها كما في حديث الترك والحبشة لأن رد العجز على الصدر وصنعة الترصيع قد جبرا منه. وقيل: إن القائلين إنما قالوا «ودعه ربه» بالتخفيف فنزلت فيكون المحسن له قصد المشاكلة لما قالوه وهم تكلموا بغير المعروف طيرة منهم كان غير المعروف من اللفظ مما يتشاءم به من الفأل الرديء أو أنهم لما قصدوا السخرية حسن استعمال اللفظ وقد قالوا يحسن استعمال الألفاظ الغريبة ونحوها في الهجاء فلا يبعد أن يكون في السخرية كذلك. والحق أنه بعد ثبوت وروده لا يحتاج إلى تكليف محسن له، والظاهر أن المراد بالرب هو الله عز وجل وفي التعبير عنه بعنوان الربوبية وإضافته إلى ضميره صلّى الله عليه وسلم من اللطف ما لا يخفى فكأنه قيل ما تركك المتكفل بمصلحتك والمبلغ لك على سبيل التدريج كما لك اللائق بك وَما قَلى أي وما أبغضك، وحذف المفعول لئلا يواجه عليه الصلاة والسلام بنسبة القلى وإن كانت في كلام منفي لطفا به صلّى الله عليه وسلم وشفقة عليه عليه الصلاة والسلام أو لنفي صدوره عنه عز وجل بالنسبة إليه صلّى الله عليه وسلم ولأحد من أصحابه ومن أحبه صلّى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، أو للاستغناء عنه بذكره من قبل مع أن فيه مراعاة للفواصل. واللغة المشهورة في مضارع قلى يقلي كيرمي وطيىء تقول: يقل بفتح العين كيرضى وتفسير القلى بالبغض شائع. وفي القاموس من الواوي قلا زيدا قلا وقلاه أبغضه ومن اليائي قلاه كرماه ورضيه قلى وقلاه مقيلة أبغضه وكرهه غاية الكراهة فتركه أو قلاه في الهجر وقليه في البغض. وفي مفردات


الصفحة التالية
Icon