أجدها على أحد قط، فأقبلا إليّ يمشيان حتى إذا دنيا أخذ كل واحد منهما بعضدي لا أجد لأخذهما مسا، فقال أحدهما لصاحبه: افلق صدره، فهوى أحدهما إلى صدري ففلقه فيما أرى بلا دم ولا وجع، فقال له:
أخرج الغل والحسد، فأخرج شيئا كهيئة العلقة ثم نبذها، فقال له: أدخل الرأفة والرحمة، فإذا مثل الذي أخرج شبه الفضة، ثم حز إبهام رجلي اليمنى وقال: اغد واسلم، فرجعت أغدو بها رأفة على الصغير ورحمة على الكبير»
. والذي رأيته
في شرح الهمزية لابن حجر المكي رواية هذا الخبر بلفظ آخر وفيه «إني لفي صحراء واسعة ابن عشر حجج إذا أنا برجلين فوق رأسي يقول أحدهما لصاحبه: أهو هو»
إلى آخر ما فيه فيكون الشق عليه قبل البلوغ أيضا والله تعالى أعلم. ثم إنه على الروايتين ليس نصا على نفي وقوع شق قبله لجواز أن يكون الذي استشعر منه النبوة هو هذا لا ما قبله، ووقع له عليه الصلاة والسلام أيضا عند مجيء جبريل عليه السلام بالوحي في غار حراء وممن روى ذلك الطيالسي والحارث في مسنديهما وكذا أبو نعيم ولفظه أن جبريل وميكائيل عليهما السلام شقا صدره وغسلاه ثم قال اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ [العلق: ١] الآيات ووقع أيضا مرة أخرى تواترات بها الروايات خلافا لمن أنكرها ليلة الإسراء به صلّى الله عليه وسلم
روى البخاري ومسلم والترمذي والنسائي عن قتادة قال: حدثنا أنس ابن مالك عن مالك بن صعصعة عن النبي صلّى الله عليه وسلم قال: «بينا أنا عند البيت بين النائم واليقظان فأتيت بطست من ذهب فيها ماء زمزم، فشرح صدري إلى كذا وكذا» قال قتادة: قلت- يعني لأنس- ما تعني قال إلى أسفل بطني؟ قال: «فاستخرج قلبي فغسل بماء زمزم ثم أعيد مكانه ثم حشي إيمانا وحكمة، ثم أتي بدابة دون البغل وفوق الحمار البراق فانطلقت مع جبريل عليه السلام حتى أتينا السماء الدنيا» الحديث.
وطعن القاضي عبد الجبار في ذلك بما حاصله أنه يلزم على وقوعه في الصغر وقبل النبوة تقدم المعجزة على النبوة وهو لا يجوز ووقوعه بعد النبوة وإن لم يلزم عليه ما ذكر إلّا أن ما ذكر معه من حديث الغسل وإدخال الرأفة والرحمة وحشو الإيمان والحكمة يرد عليه أن الغسل مما لا أثر له في التكميل الروحاني وإنما هو لإزالة أمر جسماني، وأنه لا يصح إدخال ما ذكر وحشوه فإنما هو شيء يخلقه الله تعالى في القلب وليس بشيء فإن تقدم الخارق على النبوة جائز عندنا ونسميه إرهاصا، والأخبار كثيرة في وقوعه له عليه الصلاة والسلام قبل النبوة، والغسل بالماء كان لإزالة أمر جسماني ولا يبعد أن يكون أزاله وغسل المحل بماء مخصوص كماء زمزم على ما صح في بعض الروايات ولذا قال البلقيني: إنه أفضل من ماء الكوثر موجبا لتبديل المزاج وهو مما له دخل في التكميل الروحاني ولذا يأمر المشايخ السالكين لديهم بالرياضة التي يحصل بها تبديل المزاج ويرشد إلى ذلك تغير أحوال النفس وأخلاقها صبا وكهولة وشيخوخة.
والمراد من إدخال الرأفة وحشو الإيمان مثلا إدخال ما به يحصل كمال ذلك وكثيرا ما يسمى المسبب باسم السبب مجازا، ويحتمل أن يكون على حقيقته وتجسم المعاني جائز. وقال العارف بن أبي جمرة كما في المواهب اللدنية للعسقلاني ما حاصله: إن ما دل كلام النبي صلّى الله عليه وسلم على جوهريته وجسميته من أعيان المخلوقات التي ليس للحواس إلى إدراكها سبيل هو كما دل عليه كلامه عليه الصلاة والسلام في نفس الأمر، وأن الحكم من المتكلم أو نحوه عليها بالعرضية إنما هو باعتبار ما ظهر له بعقله، وللعقل حر يقف عنده والحقيقة في الحقيقة ما دلّ عليه خبر الشارع المؤيد بالوحي الإلهي والنور القدسي المحلق بجناحيهما في جو الحقائق إلى حيث لا يسمع لنحلة العقل دندنة ولا للرواة عنه عنعنة فالإيمان والحكمة ونحوهما مما دل عليه كلام النبي صلّى الله عليه وسلم على جوهريتها جواهر محسوسة لا معان وإن حسبها من حسبها كذلك انتهى. والأمر فيه