الحديث في ذلك بل كاد يكون متواترا كيف يعدل عنه إلى تفسير آخر؟ وكذا يقال في سائر ما في الأقوال السابقة وغيرها. وهو فوعل من الكثرة صيغة مبالغة الشيء الكثير كثرة مفرطة. قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر:
بم آب ابنك؟ قالت: بكوثر. وقال الكميت:
وأنت كثير يا ابن مروان طيب | وكان أبوك ابن العقائل كوثرا |
وفي حذف موصوفه ما لا يخفى من المبالغة على ما أشار إليه شيخ الإسلام ابن تيمية، وفي إسناد الإعطاء إليه دون الإيتاء إشارة إلى أن ذلك إيتاء على جهة التمليك فإن الإعطاء دونه كثيرا ما يستعمل في ذلك ومنه قوله تعالى لسليمان عليه السلام هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ [ص: ٣٩] بعد قوله هَبْ لِي مُلْكاً [ص: ٣٥]. وقيل فيه إشارة إلى أن المعطى وإن كان كثيرا في نفسه قليل بالنسبة إلى شأنه عليه الصلاة والسلام بناء على أن الإيتاء لا يستعمل إلّا في الشيء العظيم كقوله تعالى وَآتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ [البقرة: ٢٥١] وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا [سبأ: ١٠] وآتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر: ٨٧] والإعطاء يستعمل في القليل والكثير كما قال تعالى أَعْطى قَلِيلًا وَأَكْدى [النجم: ٣٤] ففيه من تعظيمه عليه الصلاة والسلام ما فيه، وقيل التعبير بذلك لأنه بالتفضل أشبه بخلاف الإيتاء فإنه قد يكون واجبا ففيه إشارة إلى الدوام والتزايد أبدا لأن التفضل نتيجة كرم الله تعالى الغير المتناهي. وفي جعل المفعول الأول ضمير المخاطب دون الرسول أو نحوه إشعار بأن الإعطاء غير معلل بل هو من محض الاختيار والمشيئة. وفيه أيضا من تعظيمه عليه الصلاة والسلام بالخطاب ما لا يخفى. وجوز أن يكون في إسناد الإعطاء إلى
«نا» إشارة إلى أنه مما سعى فيه الملائكة والأنبياء المتقدمون عليهم السلام، وفي التعبير بالماضي قيل إشارة إلى تحقق الوقوع، وقيل إلى إشارة تعظيم الإعطاء وأنه أمر مرعي لم يترك إلى أن يفعل بعد. وقيل: إشارة إلى بشارة أخرى كأن قيل: إنا هيأنا أسباب سعادتك قبل دخولك في الوجود فكيف نهمل أمرك بعد وجودك واشتغالك بالعبودية؟ وقيل: إشارة إلى أن حكم الله تعالى بالإغناء والإفقار والإسعاد والإشقاء ليس أمرا محدثا بل هو حاصل في الأزل. وبني الفعل على المبتدأ للتأكيد والتقوي، وجوز أن يكون للتخصيص على بعض الأقوال السابقة في الكوثر وفي تأكيد الجملة بأن ما لا يخفى من الاعتناء بشأن الخبر وقيل لرد استبعاد السامع الإعطاء لما أنه لم يعلل والمعطى في غاية الكثرة وجوز أن يكون لرد الإنكار على بعض الأقوال في الكوثر أيضا.
والفاء في قوله تعالى فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ لترتيب ما بعدها على ما قبلها فإن إعطاءه تعالى إياه عليه الصلاة والسلام ما ذكر من العطية التي لم يعطها أحدا من العالمين مستوجب للمأمور به أي استجاب أي فدم على الصلاة لربك الذي أفاض عليك ما أفاض من الخير خالصا لوجهه عز وجل خلاف الساهين عنها المرائين فيها أداء لحق شكره تعالى على ذلك فإن الصلاة جامعة لجميع أقسام الشكر، ولذا قيل فَصَلِّ دون
«فاشكر» وَانْحَرْ البدن التي هي خيار أموال العرب باسمه تعالى وتصدق على المحاويج خلافا لمن يدعهم ويمنع منهم الماعون كذا قيل. وجعل السورة عليه كالمقابلة لما قبلها كما فعل الإمام، ولم يذكروا مقابل التكذيب بالدين. وقال الشهاب الخفاجي: إن الكوثر بمعنى الخير الكثير الشامل للأخروي يقابل ذلك لما فيه من إثباته ضمنا وكذا إذا كان بمعنى النهر والحوض والأمر على تفسيره بالإسلام وتفسير الدين به أيضا في غاية الظهور، والمراد بالصلاة عند أبي مسلم الصلاة المفروضة. وأخرج ذلك ابن جرير وابن أبي حاتم عن الضحاك وأخرجه الأول وابن المنذر عن ابن عباس، وذهب جمع إلى أنها جنس الصلاة. وقيل: المراد بها صلاة العيد