المجمع عن طارق المحاربي قال: بينا أنا بسوق ذي المجاز إذا أنا برجل حديث السن يقول: أيها الناس قولوا لا إله إلّا الله تفلحوا، وإذا رجل خلفه يرميه قد أدمى ساقيه وعرقوبيه ويقول: يا أيها الناس إنه كذاب فلا تصدقوه، فقلت: من هذا؟ فقالوا: هو محمد صلّى الله عليه وسلم يزعم أنه نبي، وهذا عمه أبو لهب يزعم أنه كذاب
وأخرج الإمام أحمد والشيخان والترمذي عن ابن عباس قال: لما نزلت وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ [الشعراء: ٢١٤] صعد النبي صلّى الله عليه وسلم على الصفا فجعل ينادي: «يا بني فهر يا بني عدي» لبطنون قريش حتى اجتمعوا فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولا لينظر ما هو، فجاء أبو لهب وقريش فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلا بالوادي تريد أن تغير عليكم أكنتم مصدقي» ؟ قالوا: نعم ما جربنا عليك إلّا صدقا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد» فقال أبو لهب: تبا لك سائر الأيام ألهذا جمعتنا؟ فنزلت
ويروى أنه مع ذلك القول أخذ بيديه حجرا ليرمي بها رسول الله صلّى الله عليه وسلم ومن هذا يعلم وجه إيثار التباب على الهلاك ونحوه مما تقدم وإسناده إلى يديه وكذا مما روى البيهقي في الدلائل عن ابن عباس أيضا أن أبا لهب قال لما خرج من الشعب وظاهر قريشا: إن محمدا يعدنا أشياء لا نراها كائنة يزعم أنها كائنة بعد الموت، فماذا وضع في يديه ثم نفخ في يديه ثم قال تبا لكما ما أرى فيكما شيئا مما يقول محمد صلّى الله عليه وسلم فنزلت تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ
ومما روي عن طارق يعلم وجه الثاني فقط فاليدان على المعنى المعروف والكلام دعاء بهلاكهما. وقوله سبحانه وَتَبَّ دعاء بهلاك كله وجوز أن يكونا إخبارين بهلاك ذينك الأمرين والتعبير بالماضي في الموضعين لتحقق الوقوع.
وقال الفرّاء: الأول دعاء بهلاك جملته على أن اليدين إما كناية عن الذات والنفس لما بينهما من اللزوم في الجملة، أو مجاز من إطلاق الجزء على الكل كما قال محيي السنة والقول في رده أنه يشترط أن يكون الكل يعدم بعدمه كالرأس والرقبة واليد ليست كذلك غير مسلم لتصريح فحول بخلافه هنا، وفي قوله تعالى وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ [البقرة: ١٩٥] أو المراد على ما قيل بذلك الشرط يعدم حقيقة أو حكما كما في إطلاق العين على الربيئة واليد على المعطي أو المتعاطي لبعض الأفعال فإن الذات من حيث اتصافها بما قصد اتصافها به تعدم يعدم ذلك العضو، والثاني إخبار بالحصول أي وكان ذلك وحصل كقول النابغة:

جزاني جزاه الله شر جزائه جزاء الكلاب العاويات وقد فعل
واستظهر أن هذه الجملة حالية وقد مقدرة على المشهور كما قرأ به ابن مسعود. وفي الصحيحين وغيرهما من حديث ابن عباس في سبب النزول فنزلت هذه السورة «تبت يدا أبي لهب وقد تب» وعلى هذه القراءة يمتنع أن يكون ذلك دعاء لأن «قد» لا تدخل على أفعال الدعاء. وقيل: الأول إخبار عن هلاك عمله حيث لم يفده ولم ينفعه لأن الأعمال تزاول بالأيدي غالبا. والثاني إخبار عن هلاك نفسه. وفي التأويلات اليد بمعنى النعمة وكان يحسن إلى النبي صلّى الله عليه وسلم وإلى قريش ويقول إن كان الأمر لمحمد فلي عنده يد، وإن كان لقريش فكذلك، فأخبر أنه خسرت يده التي كانت عند النبيّ صلّى الله عليه وسلم بعناده له ويده التي عند قريش أيضا بخسران قريش وهلاكهم في يد النبي عليه الصلاة والسلام فهذا معنى تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ والمراد بالثاني الإخبار بهلاكه نفسه وذكر بكنيته لاشتهاره بها وقد أريد تشهيره بدعوة السوء وأن تبقى سمة له وذكره بأشهر علميه أوفق بذلك. ويؤيد ذلك قراءة من قرأ «يدا أبو لهب» كما قيل عليّ بن أبو طالب ومعاوية بن أبو سفيان لئلا يغير منه شيء فيشكل على السامع، أو لكراهة ذكر اسمه القبيح أو لأنه كما روي عن مقاتل كان يكنى بذلك لتلهب وجنتيه وإشراقهما فذكر بذلك تهكما به وبافتخاره بذلك، أو لتجانس ذات لهب ويوافقه لفظا ومعنى.


الصفحة التالية
Icon