مجزعة وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ المال والغنى أو الصحة مَنُوعاً مبالغا في المنع والإمساك وإِذا الأولى ظرف لجزوعا والثانية ظرف لمنوعا والوصفان على ما اختاره بعض الأجلة صفتان كاشفتان لهلوعا الواقع حالا كما هو الأنسب بما سمعت عن ابن عباس وغيره. وقال غير واحد الأوصاف الثلاثة أحوال فقيل مقدرة إن أريد اتصاف الإنسان بذلك بالفعل فإنه في حال الخلق لم يكن كذلك وإنما حصل له ذلك بعد تمام عقله ودخوله تحت التكليف، ومحققة إن أريد اتصافه بمبدأ هذه الأمور من الأمور الجبلية والطبائع الكلية المندرجة فيها تلك الصفات بالقوة ولا مانع عند أهل الحق من خلقه تعالى الإنسان وطبعه سبحانه إياه على ذلك وفي زوالها بعد خلاف فقيل إنها تزول بالمعالجة ولولاه لم يكن للمنع منها والنهي عنها فائدة وهي ليست من لوازم الماهية فالله تعالى كما خلقها يزيلها وقيل: إنها لا تزول وإنما تستر ويمنع المرء عن آثارها الظاهرة كما قيل:
والطبع في الإنسان لا يتغير وهذا الخلاف جار في جميع الأمور الطبيعية وقال بعضهم: الأمور التابعة منها لأصل المزاج لا تتغير والتابعة لعرضه قد تتغير. وذهب الزمخشري إلى أن في الكلام استعارة فقال: المعنى أن الإنسان لإيثاره الجزع والمنع وتمكنهما منه ورسوخهما فيه كأنه مجبول عليهما مطبوع وكأنه أمر خلقي وضروري غير اختياري كقوله تعالى خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ [الأنبياء: ٣٧] لأنه في البطن والمهد لم يكن به هلع ولأنه ذم والله تعالى لا يذم فعله سبحانه والدليل عليه استثناء المؤمنين الذين جاهدوا أنفسهم وحملوها على المكاره وطلقوها من الشهوات حتى لم يكونوا جازعين ولا مانعين. وتعقب بأنه في المهد أهلع وأهلع فيسرع إلى الثدي ويحرص على الرضاع وإن مسه ألم جزع وبكى وإن تمسك بشيء فزوحم عليه منع بما في قدرته من اضطراب وبكاء وفي البطن لا يعلم حاله وأيضا الاسم يقع عليه بعد الوضع فما بعده هو المعتبر وإن الذم من حيث القيام بالعبد كما حقق في موضعه وإن الاستثناء إما منقطع لأنه لما وصف سبحانه من أدبر وتولى معللا بهلعه وجزعه قال تعالى لكن المصلين في مقابلتهم أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ [المعارج: ٣٥] ثم كر على السابق وقال فَمالِ الَّذِينَ كَفَرُوا [المعارج: ٣٦] بالفاء تخصيصا بعد تعميم ورجعا إلى بدء لأنهم من المستهزئين الذين افتتح السورة بذكر سؤالهم أو متصل على أنهم لم يستمر خلقهم على الهلع فإن الأول لما كان تعليلا كان معناه خلقا مستمرا على الهلع والجزع إِلَّا الْمُصَلِّينَ فإنهم لم يستمر خلقهم على ذلك فلا يرد أن الهلع الذي في المهد لو كان مرادا لما صح استثناء المصلين لأنهم كغيرهم في حال الطفولية انتهى وهذا الاستثناء هو ما تضمنه قوله تعالى إِلَّا الْمُصَلِّينَ إلخ وقد وصفهم سبحانه بما ينبىء عن كمال تنزههم عن الهلع من الاستغراق في طاعة الحق عز وجل والإشفاق على الخلق والإيمان بالجزاء والخوف من العقوبة وكسر الشهوة وإيثار الآجل على العاجل فقال عز من قائل الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي مواظبون على أدائها لا يخلون بها ولا يشتغلون عنها بشيء من الشواغل وفيه إشارة إلى فضل المداومة على العبادة
وقد أخرج ابن حبان عن أبي سلمة قال حدثتني عائشة قالت: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «خذوا من العمل ما تطيقون فإن الله تعالى لا يمل حتى تملوا»
قالت فكان أحب الأعمال إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم ما دام عليه وإن قل، وكان إذا صلى صلاة دام عليها وقرأ أبو سلمة الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ وأخرج أحمد في مسنده عنها أنها قالت: كان عمله صلّى الله عليه وسلم ديمة قال جار الله أي ما فعل من أفعال الخير إلّا وقد اعتاد ذلك ويفعله كلما جاء وقته ووجه بأن الفعلة للحال التي يستمر عليها الشخص ثم في جعله نفس الحالة ما لا يخفى من المبالغة والدلالة على أنه


الصفحة التالية
Icon