ونجتهد في تطبيقهما أولا مهما أمكن لأن الأصل في الدلائل الأعمال دون الإهمال كما تقرر عند أهل الأصول ثم نطلب بعد ذلك الترجيح بينهما، ثم إذا لم يتيسر لها الترجيح بينهما نتركهما ونتوجه إلى الدلائل الأخر من السنة، وقد ذكر الأصوليون أن الآيات إذا تعارضت بحيث لا يمكن التوفيق، ثم الترجيح بينهما يرجع إلى السنة فإنها لما لم يمكن لنا العمل بها صارت معدومة في حقنا من حيث العمل وإن تعارضت السنة كذلك نرجع إلى أقوال الصحابة وأهل البيت، أو نرجع إلى القياس عند القائلين بأن قياس المجتهد يعمل به عند التعارض، فلما تأملنا في هاتين القراءتين في الآية وجدنا التطبيق بينهما بقواعدنا من وجهين: الأول أن يحمل المسح على الغسل كما صرح به أبو زيد الأنصاري وغيره من أهل اللغة، فيقال للرجل إذا توضأ: تمسح ويقال: مسح الله تعالى ما بك أي أزال عنك المرض، ومسح الأرض المطر إذا غسلها فإذا عطفت الأرجل على الرؤوس في قراءة الجر لا يتعين كونها ممسوحة بالمعنى الذي يدعيه الشيعة.
واعترض ذلك من وجوه: أولها أن فائدة اللفظين في اللغة والشرع مختلفة، وقد فرق الله تعالى بين الأعضاء المغسولة والممسوحة، فكيف يكون معنى الغسل والمسح واحدا؟! وثانيها أن الأرجل إذا كانت معطوفة على الرؤوس- وكان الفرض في الرؤوس المسح الذي ليس بغسل بلا خلاف- وجب أن يكون حكم الأرجل كذلك، وإلا لزم الجمع بين الحقيقة والمجاز، وثالثها أنه لو كان المسح بمعنى الغسل يسقط الاستدلال على الغسل
بخبر «أنه صلّى الله عليه وسلّم غسل رجليه»
لأنه على هذا يمكن أن يكون مسحها فسمي المسح غسلا.
ورابعها أن استشهاد أبي زيد بقولهم: تمسحت للصلاة لا يجدي نفعا لاحتمال أنهم لما أرادوا أن يخبروا عن الطهور بلفظ موجز، ولم يجز أن يقولوا: تغسلت للصلاة لأن ذلك يوهم الغسل، قالوا بدله: تمسحت لأن المغسول من الأعضاء ممسوح أيضا، فتجوزوا بذلك تعويلا على فهم المراد، وذلك لا يقتضي أن يكونوا جعلوا المسح من أسماء الغسل، وأجيب عن الأول بأنّا لا ننكر اختلاف فائدة اللفظين لغة وشرعا ولا تفرقة الله تعالى بين المغسول والممسوح من الأعضاء، لكنا ندعي أن حمل المسح على الغسل في بعض المواضع جائز وليس في اللغة والشرع ما يأباه، على أنه قد ورد ذلك في كلامهم، وعن الثاني بأنا نقدر لفظ امسحوا قبل أرجلكم أيضا وإذا تعدد اللفظ فلا بأس بأن يتعدد المعنى ولا محذور فيه، فقد نقل شارح زبدة الأصول من الإمامية أن هذا القسم من الجمع بين الحقيقة والمجاز جائز بحيث يكون ذلك اللفظ في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي وفي المعطوف بالمعنى المجازي، وقالوا: في آية لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَلا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ [النساء: ٤٣] : إن الصلاة في المعطوف عليه بالمعنى الحقيقي الشرعي- وهو الأركان المخصوصة- وفي المعطوف بالمعنى المجازي- وهو المسجد- فإنه محل الصلاة، وادعى ذلك الشارح أن هذا نوع من الاستخدام، وبذلك فسر الآية جمع من مفسري الإمامية وفقهائهم، وعليه فيكون هذا العطف من عطف الجمل في التحقيق، ويكون المسح المتعلق بالرؤوس بالمعنى الحقيقي، والمسح المتعلق بالأرجل بالمعنى المجازي، على أن من أصول الإمامية- كالشافعية- جواز الجمع بين الحقيقة والمجاز، وكذا استعمال المشترك في معنييه، ويحتمل هنا إضمار الجار تبعا للفعل فتدبر ولا يشكل أن في الآية حينئذ إبهاما ويبعد وقوع ذلك في التنزيل لأنا نقول: إن الآية نزلت بعد ما فرض الوضوء وعلمه عليه الصلاة والسلام روح القدس إياه في ابتداء البعثة بسنين فلا بأس أن يستعمل فيها هذا القسم من الإبهام، فإن المخاطبين كانوا عارفين بكيفية الوضوء ولم تتوقف معرفتهم بها على الاستنباط من الآية، ولم تترك الآية لتعليمهم بل سوقها لإبدال التيمم من الوضوء والغسل في الظاهر، وذكر الوضوء فوق التيمم للتمهيد والغالب فيما يذكر لذلك عدم البيان


الصفحة التالية
Icon