والاستنشاق هنا فرض كغسل سائر البدن لأنه سبحانه أضاف التطهير إلى مسمى الواو، وهو جملة بدن كل مكلف، فيدخل كل ما يمكن الإيصال إليه إلا ما فيه حرج كداخل العينين فيسقط للحرج ولا حرج في داخل الفم والأنف فيشملهما نص الكتاب من غير معارض كما شملها
قوله صلّى الله عليه وسلّم فيما رواه أبو داود: «تحت كل شعرة جنابة فبلوا الشعر وأنقوا البشرة»
وكونهما من الفطرة كما
جاء في الخبر لا ينفي الوجوب لأنها الدين،
وهو أعم منه، وتشعر الآية بأنه لا يجب الغسل على الجنب فورا ما لم يرد فعل ما لا يجوز بدونه ويؤيد ذلك ما صح أنه صلّى الله عليه وسلّم خرج لصلاة الفجر ناسيا أنه جنب حتى إذا وقف تذكر فانصرف راجعا فاغتسل وخرج ورأسه الشريف يقطر ماء وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا تخافون به الهلاك، أو ازدياده باستعمال الماء.
أَوْ عَلى سَفَرٍ أي مستقرين عليه.
أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ- من- لابتداء الغاية، وقيل: للتبعيض وهو متعلق- بامسحوا- وقرأ عبد الله- فأموا صعيدا- وقد تقدم تفسير الآية في سورة النساء فليراجع، ولعل التكرير ليتصل الكلام في بيان أنواع الطهارة، ولئلا يتوهم النسخ- على ما قيل- بناء على أن هذه السورة من آخر ما نزل ما يُرِيدُ اللَّهُ بما فرض عليكم من الوضوء إذا قمتم إلى الصلاة والغسل من الجنابة، أو بالأمر بالتيمم لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ أي ضيق في الامتثال، والجعل- يحتمل أن يكون بمعنى الخلق والإيجاد فيتعدى لواحد وهو مِنْ حَرَجٍ ومِنَ زائدة، وعَلَيْكُمْ حينئذ متعلق- بالجعل- وجوز أن يتعلق- بحرج- وإن كان مصدرا متأخرا، ويحتمل أن يكون بمعنى التصيير، فيكون عَلَيْكُمْ هو المفعول الثاني وَلكِنْ يُرِيدُ أي بذلك لِيُطَهِّرَكُمْ أي لينظفكم، فالطهارة لغوية، أو ليذهب عنكم دنس الذنوب، فإن الوضوء يكفر الله تعالى به الخطايا،
فقد أخرج مالك ومسلم وابن جرير عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: إذا توضأ العبد المسلم فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء- أو مع آخر قطر الماء- حتى يخرج نقيا من الذنوب»
فالطهارة معنوية بمعنى تكفير الذنوب لا بمعنى إزالة النجاسة، لأن الحدث ليس نجاسة بلا خلاف، وإطلاق ذلك عليه باعتبار أنه نجاسة حكمية بمعنى كونه مانعا من الصلاة لا بمعنى كونه بحيث يتنجس الطعام أو الشراب الرطب بملاقاة المحدث أو تفسد الصلاة بحمله، وأما تنجس الماء فيما شاع عن الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه، وروي رجوعه عنه فلانتقال المانعية والآثام إليه حكما، وقيل: المراد تطهير القلب عن دنس التمرد عن طاعة الله تعالى.
وجوز أن يكون المراد ليطهركم بالتراب إذا أعوزكم التطهر بالماء، والمراد بالتطهر رفع الحدث والمانع الحكمي، وأما ما نقل عن بعض الشافعية- كإمام الحرمين- من أن القول: بأن التراب مطهر قول ركيك، فمراده به منع الطهارة الحسية فلا يرد عليه أنه مخالف
للحديث الصحيح «جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا»
والإرادة صفة ذات، وقد شاع تفسيرها، ومفعولها في الموضعين محذوف كما أشير إليه، واللام للعلة، وإلى ذلك ذهب بعض المحققين، وقيل: هي مزيدة والمعنى ما يريد الله أن يجعل عليكم من حرج حتى لا يرخص لكم في التيمم «ولكن يريد أن يطهركم» وضعف بأن ألا تقدر بعد المزيدة، وتعقب بأن هذا مخالف لكلام النحاة، فقد قال الرضي: الظاهر أن تقدر أن بعد اللام الزائدة التي بعد فعل الأمر والإرادة، وكذا في المغني. وغيره، ووقوع هذه اللام بعد الأمر والإرادة في القرآن وكلام العرب شائع مقيس، وهو من مسائل الكتاب قال فيه: سألته- أي الخليل- عن معنى أريد


الصفحة التالية
Icon