وقال بعض المحققين أيضا: إنه تكلف ولا يتوجه فيه الجواب إلا باعتبار ما يلزم التخويف من الامتناع عن المناهي المستلزم للرحمة، وقيل: صلاحية ما في الآية للجواب باعتبار أن المراد ليجمعنكم إلى يوم القيامة ولا يعاجلكم بالعقوبة الآن على تكذيبكم على ما أشار إليه الكلبي، وقيل: إن القسم وجوابه في محل نصب على أنه بدل من الرَّحْمَةَ بدل البعض، وقد ذكر النحاة أن الجملة تبدل من المفرد. نعم لم يتعرضوا لأنواع البدل في ذلك.
والجار والمجرور قيل متعلق بمحذوف أي ليجمعنكم في القبور مبعوثين إلى يوم إلخ على أن البعث بمعنى الإرسال وهو مما يتعدى بإلى ولا يحتاج إلى ارتكاب التضمين، واعترض بأن البعث يكون إلى المكان لا إلى الزمان إلا أن يراد بيوم القيامة واقعتها في موقعها وقيل: هو متعلق بالفعل المذكور، والمراد جمع فيه معنى السوق والاضطرار كأنه قيل ليبعثنكم ويسوقنكم ويضطرنكم إلى يوم القيامة أي إلى حسابه، وقيل: إنه متعلق بالفعل وإلى بمعنى في كما في قوله:

لا تتركني بالوعيد كأنني إلى الناس مطلي به القار أجرب
ومنع بعضهم مجيء إلى بمعنى في في كلامهم ولو صح ذلك لجاز زيد إلى الكوفة بمعنى في الكوفة وتأول البيت بتضمين مضافا أو مبغضا أو مكرها، وأجيب بأن ذلك إنما يرد إذا قيل: إن استعمال إلى بمعنى في قياس مطرد ولعل القائل بالاستعمال لا يقول بما ذكر، وارتكاب التضمين خلاف الأصل، وارتكاب القول بأن إلى بمعنى في وإن لم يكن مطردا أهون منه، وقيل: إنها بمعنى اللام، وقيل: زائدة والخطاب للكافرين كما هو الظاهر من السياق، وقيل: عام لهم وللمؤمنين بعد أن كان خاصا بالكافرين أي ليجمعنكم أيها الناس إلى يوم القيامة لا رَيْبَ فِيهِ أي لا ينبغي لأحد أن يرتاب فيه لوضوح أدلته وسطوع براهينه التي تقدم بعض منها.
والجملة حال من اليوم والضمير المجرور له، ويحتمل أن تكون صفة لمصدر محذوف والضمير له أي جمعا لا ريب فيه، وجوز أن تكون تأكيدا لما قبلها كما قالوا في قوله تعالى: ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة: ٢].
الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس مالهم وهو الفطرة الأصلية والعقل السليم والاستعداد القريب الحاصل من مشاهدة الرسول صلّى الله عليه وسلّم واستماع الوحي وغير ذلك من آثار الرحمة، وموضع الموصول قيل: نصب على الذم أو رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي أنتم الذين وهو نعت مقطوع ولا يلزم أن يكون كل نعت مقطوع يصح اتباعه نعتا بل يكفي فيه معنى الوصف ألا ترى إلى قوله تعالى: وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الَّذِي جَمَعَ مالًا [الهمزة: ١، ٢] كيف قطع فيه الَّذِي مع عدم صحة اتباعه نعتا للنكرة فلا يرد أن القطع إنما يكون في النعت والضمير لا ينعت، وقيل:
هو بدل من الضمير بدل بعض من كل بتقدير ضمير أو هو خبر مبتدأ على القطع على البدلية أيضا ولا اختصاص للقطع بالنعت، ولعلهم إنما لم يجعلوه منصوبا بفعل مقدر أو خبرا لمبتدأ محذوف من غير حاجة لما ذكر لدعواهم أن مجرد التقدير لا يفيد الذم أو المدح إلا مع القطع. واختار الأخفش البدلية، وتعقب ذلك أبو البقاء بأنه بعيد لأن ضمير المتكلم والمخاطب لا يبدل منهما لوضوحهما غاية الوضوح وغيرهما دونهما في ذلك، وقيل: هو مبتدأ خبره فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ والفاء للدلالة على أن عدم إيمانهم وإصرارهم على الكفر مسبب عن خسرانهم فإن إبطال العقل باتباع الحواس والوهم والانهماك في التقليد أدى بهم إلى الإصرار على الكفر والامتناع عن الإيمان، وفي الكشاف فإن قلت:
كيف يكون عدم إيمانهم مسببا عن خسرانهم والأمر على العكس؟ قلت: معناه الذين خسروا أنفسهم في علم الله تعالى لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون.
وحاصل الكلام على هذا الذين حكم الله تعالى بخسرانهم لاختيارهم الكفر فهم لا يؤمنون، والحكم بالخسران سابق على عدم الإيمان لأنه مقارن للعلم باختيار الكفر لا لحصوله بالفعل فيصح ترتب عدم الإيمان عليه من هذا الوجه،


الصفحة التالية
Icon