لأن الشكر مناسب لتمكينهم في البلاد والتصرف فيها كما أن التذكر في الجملة السابقة موافق للتمييز بين اتباع دين الحق ودين الباطل، وبقية الكلام في هذه الجملة على طرز ما مر في نظيرها فتذكر.
وَلَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ تذكير لنعمة أخرى، وتأخيره عن تذكير ما وقع بعده من نعمة التمكن في الأرض إما لأنها فائضة على المخاطبين بالذات وهذه بالواسطة. وإما للإيذان بأن كلا منهما نعمة مستقلة، والمراد خلق آدم عليه السلام وتصويره كما يقتضيه ظاهر العطف الآتي لكن لما كان مبدأ للمخاطبين جعل خلقه خلقا لهم ونزل منزلته فالتجوز على هذا في ضمير الجمع بجعل آدم عليه السلام كجميع الخلق لتفرعهم عنه أو في الإسناد إذ أسند ما لآدم الذي هو الأصل والسبب إلى ما تفرع عنه وتسبب.
وجعل بعضهم الكلام على تقدير المضاف، وذهب الإمام إلى أنه كناية عن خلق آدم عليه السلام، والمعنى خلقنا أباكم آدم عليه السلام طينا غير مصور ثم صورناه أبدع تصوير وأحسن تقويم سار ذلك إليكم. وجوز أن يكون التجوز في الفعل، والمراد ابتدأنا خلقكم ثم تصويركم بأن خلقنا آدم ثم صورناه، ويعود هذا إلى ابتداء خلق الجنس وابتداء خلق كل جنس بإيجاد أول أفراده. فهو نظير قوله تعالى: خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ [السجن: ٧] وعلى هذين الوجهين يظهر وجه العطف بثم في قوله تعالى: ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ وزعم الأخفش أن ثُمَّ هنا بمعنى الواو، وتعقبه الزجاج بأنه خطأ لا يجيزه الخليل وسيبويه ولا من يوثق بعلمه لأن ثم للشيء الذي يكون بعد المذكور قبله لا غيره، وإنما المعنى إنا ابتدأنا خلق آدم عليه السلام من تراب ثم صورناه أي هذا أصل خلقكم ثم بعد الفراغ من أصلكم قلنا إلخ، وقيل: إن ثُمَّ لترتيب الأخبار لا للترتيب الزماني حتى يحتاج إلى توجيه، والمعنى خلقناكم يا بني آدم مضغا غير مصورة ثم صورناكم بشق السمع والبصر وسائر الأعضاء كما روي عن يمان أو خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء كما روي عن عكرمة ثم نخبركم أنا قلنا للملائكة إلخ وإلى هذا ذهب جماعة من النحويين منهم علي بن عيسى والقاضي أبو سعيد السيرافي. وغيرهما، وقال الطيبي: يمكن أن تحمل ثُمَّ على التراخي في الرتبة لأن مقام الامتنان يقتضي أن يقال: إن كون أبيهم مسجودا للملائكة أرفع درجة من خلقهم وتصويرهم، وفيه تلويح إلى شرف العلم وتنبيه للمخاطبين على تحصيل ما فاز به أبوهم من تلك الفضيلة. ومن ثم عقب في البقرة الأمر بالسجود مسألة التحدي بالعلم.
وعن ابن عباس، ومجاهد، والربيع، وقتادة، والسدي أن المعنى خلقنا آدم عليه السلام ثم صورناكم في ظهره ثم قلنا إلخ. وقد تقدم الكلام في المراد بالملائكة المأمورين بالسجود، وكذا الكلام في المراد بالسجود.
وذكر بعض المحققين أن الظاهر أن يقال: ثم أمرنا الملائكة بالسجود لآدم إلا أنه عدل عن ذلك لأن الآمر بالسجود كان قبل خلق آدم عليه السلام على ما نطق به قوله تعالى: فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ [الحجر: ٢٩] والواقع بعد تصويره إنما هو قوله سبحانه: اسْجُدُوا لِآدَمَ وذلك لتعيين وقت السجدة المأمور بها قبل، والحاصل أنه سبحانه أمرهم أولا أمرا معلقا ثم أمرهم ثانيا أمرا منجزا مطابقا للأمر السابق فلذا جعله حكاية له، وفي ذلك ما لا يخفى من الاعتناء بشأن آدم عليه السلام فَسَجَدُوا أي الملائكة عليهم السلام بعد القول من غير تلعثم كلهم أجمعون إِلَّا إِبْلِيسَ استثناء متصل سواء قلنا إن إبليس من الملائكة حقيقة أم لا، أما على الأول فظاهر، وأما على الثاني فلأنه لما كان جنيا مفردا مغمورا بألوف من الملائكة متصفا بغالب صفاتهم غلبوا عليه في «سجدوا» ثم استثنى استثناء واحد منهم. وقيل: منقطع بناء على أنه من الجن وأنهم ليسوا من جنس الملائكة ولا تغليب، والأول هو المختار.


الصفحة التالية
Icon