وذكر الطيبي أن هاهنا نكتة سرية وهي أن يقال: إنه تعالى قدم في قوله سبحانه: «كما بدأكم تعودون» المشبه به على المشبه لينبه العاقل على أن قضاء الشؤون لا يخالف القدر والعلم الأزلي البتة وكما روعي هذه الدقيقة في المفسر روعيت في التفسير. وزيد أخرى عليها وهي أنه سبحانه قدم مفعول هَدى للدلالة على الاختصاص وأن فريقا آخر ما أراد هدايتهم. وقرر ذلك بأن عطف عليه وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ وأبرزه في صورة الإضمار على شريطة التفسير أي أضل فريقا حق عليهم الضلالة وفيه مع الاختصاص التوكيد كما قرره صاحب المفتاح لتنقطع ريبة المخالف ولا يقول: إن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالتهم انتهى.
وكأنه يشير بذلك إلى رد قول الزمخشري في قوله تعالى: إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي تولوهم بالطاعة فيما أمروهم به، وهذا دليل على أن علم الله تعالى لا أثر له في ضلالهم وإنهم هم الضالون باختيارهم وتوليتهم الشياطين دون الله تعالى فجملة إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا على هذا تعليل لقوله سبحانه: «وفريقا حق عليهم الضلالة» ويؤيد ذلك أنه قرىء «أنهم» بالفتح. ويحتمل أن تكون تأكيدا لضلالهم وتحقيقا له وأنا- الحق أحق بالاتباع- مع القائل: إن علم الله تعالى لا يؤثر في المعلوم وأن من علل الجبر به مبطل كيف والمتكلمون عن آخرهم قائلون: إن العلم يتعلق بالشيء على ما هو عليه إنما الكلام في أن قدرة الله تعالى لا أثر لها على زعم الضلّال أصحاب الزمخشري ونحن مانعون لذلك أشد المنع، ولا منع من التعليل بالاتخاذ عند الأشاعرة لثبوت الكسب والاختيار ويكفي هذه المدخلية في التعليل. والزمخشري قدر الفعل في قوله سبحانه وَفَرِيقاً حَقَّ خذل ووافقه بعض الناس وما فعله الطيبي هو المختار عند بعض المحققين لظهور الملاءمة فيه وخلوه عن شبهة الاعتزال.
واختير تقديره مؤخرا لتتناسق الجملتان، وهما عند الكثير في موضع الحال من ضمير تَعُودُونَ بتقدير قد أو مستأنفتان، وجوز نصب فَرِيقاً الأول وفَرِيقاً الثاني على الحال والجملتان بعدهما صفتان لهما، ويؤيد ذلك قراءة أبي «تعودون فريقين فريقا هدى وفريقا» إلخ، والمنصوب على هذه القراءة إما بدل أو مفعول به لأعني مقدرا. ولم تلحق تاء التأنيث- لحق- للفصل أو لأن التأنيث غير حقيقي، والكلام على تقدير مضاف عند بعض أي حق عليهم كلمة الضلالة وهي قوله سبحانه: «ضلوا» وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ عطف على ما قبله داخل معه في حيز التعليل أو التأكيد.
ولعل الكلام من قبيل- بنو فلان قتلوا فلانا والأول لكونه في مقابلة من هداه الله تعالى شامل للمعاند والمخطئ والثاني مختص بالثاني وهو صادق على المقصر في النظر والباذل غاية الوسع فيه، واختلف في توجه الذم على الأخير وخلوده في النار. ومذهب البعض أنه معذور ولم يفرقوا بين من لا عقل له أصلا ومن له عقل لم يدرك به الحق بعد أن لم يدع في القوس منزعا في طلبه فحيث يعذر الأول لعدم قيام الحجة عليه يعذر الثاني لذلك، ولا يرون مجرد المالكية وإطلاق التصرف حجة ولله تعالى الحجة البالغة، والتزام أن كل كافر معاند بعد البعثة وظهور أمر الحق كنار على علم وأنه ليس في مشارق الأرض ومغاربها اليوم كافر مستدل، إلا يقدم عليه إلا مسلم معاند أو مسلم مستدل بما هو أوهن من بيت العنكبوت وإنه لأوهن البيوت. وادعى بعضهم أن المراد من المعطوف عليه المعاند ومن المعطوف المخطئ والظاهر ما قلنا. وجعل الجملة حالية على معنى اتخذوا الشياطين أولياء وهم يحسبون أنهم مهتدون في ذلك الاتخاذ لا يخفى ما فيه يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ أي ثيابكم لمواراة عوراتكم لأن المستفاد من الأمر الوجوب والواجب إنما هو ستر العورة عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي طواف أو صلاة، وإلى ذلك ذهب مجاهد وأبو الشيخ وغيرهما، وسبب النزول على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان أناس من الأعراب


الصفحة التالية
Icon