ويؤيد ما أشرنا إليه من ضعف الأخبار بالنزول جملة ما قاله ابن الصلاح في فتاويه الحديث الوارد في أنها نزلت جملة رويناه من طريق أبي بن كعب ولم نر له سندا صحيحا، وقد روي ما يخالفه انتهى. ومن هذا يعلم ما في دعوى الإمام اتفاق الناس على القول بنزولها جملة فتدبر. ووجه مناسبتها لآخر المائدة على- ما قال بعض الفضلاء- إنها افتتحت بالحمد وتلك اختتمت بفصل القضاء وهما متلازمان كما قال سبحانه: وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ [الزمر: ٧٥].
وقال الجلال السيوطي في وجه المناسبة: إنه تعالى لما ذكر في آخر المائدة لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما فِيهِنَّ [المائدة: ١٢٠] على سبيل الإجمال افتتح جل شأنه هذه السورة بشرح ذلك وتفصيله فبدأ سبحانه بذكر خلق السماوات والأرض وضم تعالى إليه أنه جعل الظلمات والنور وهو بعض ما تضمنه ما فيهن ثم ذكر عز اسمه أنه خلق النوع الإنساني وقضى له أجلا وجعل له أجلا آخر للبعث وأنه جل جلاله منشىء القرون قرنا بعد قرن ثم قال تعالى: قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ [الأنعام: ١٢] إلخ فأثبت له ملك جميع المظروفات لظرف المكان. ثم قال عز من قائل: وَلَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهارِ [الأنعام: ١٣] فأثبت أنه جل وعلا ملك جميع المظروفات لظرف الزمان. ثم ذكر سبحانه خلق سائر الحيوان من الدواب والطير ثم خلق النوم واليقظة والموت. ثم أكثر عز وجل في أثناء السورة من الإنشاء والخلق لما فيهن من النيرين والنجوم وفلق الإصباح وفلق الحب والنوى وإنزال الماء وإخراج النبات والثمار بأنواعها وإنشاء جنات معروشات وغير معروشات إلى غير ذلك مما فيه تفصيل ما فيهن، وذكر عليه الرحمة وجها آخر في المناسبة أيضا وهو أنه سبحانه لما ذكر في سورة المائدة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ [المائدة: ٨٧] إلخ، وذكر جل شأنه بعده ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ [المائدة: ١٠٣] إلخ فأخبر عن الكفار أنهم حرموا أشياء مما رزقهم الله تعالى افتراء على الله عز شأنه وكان القصد بذلك تحذير المؤمنين أن يحرموا شيئا من ذلك فيشابهوا الكفار في صنعهم وكان ذكر ذلك على سبيل الإيجاز ساق جل جلاله هذه السورة لبيان حال الكفار في صنعهم فأتى به على الوجه الأبين والنمط الأكمل ثم جادلهم فيه وأقام الدلائل على بطلانه وعارضهم وناقضهم إلى غير ذلك مما اشتملت عليه القصة فكانت هذه السورة شرحا لما تضمنته تلك السورة من ذلك على سبيل الإجمال وتفصيلا وبسطا وإتماما وإطنابا، وافتتحت بذكر الخلق والملك لأن الخالق المالك هو الذي له التصرف في ملكه ومخلوقاته إباحة ومنعا وتحريما وتحليلا فيجب أن لا يعترض عليه سبحانه بالتصرف في ملكه، ولهذه السورة أيضا اعتلاق من وجه بالفاتحة لشرحها إجمال قوله تعالى: رَبِّ الْعالَمِينَ [الفاتحة: ٢] وبالبقرة لشرحها إجمال قوله سبحانه: الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ [البقرة: ٢١] وقوله عز اسمه الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً [البقرة: ٢٩] وبآل عمران من جهة تفصيلها لقوله جل وعلا: وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ [آل عمران: ١٤] وقوله تعالى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ [آل عمران: ١٨٥، الأنبياء: ٣٥، العنكبوت: ٥٧] إلخ وبالنساء من جهة ما فيها من بدء الخلق والتقبيح لما حرموه على أزواجهم وقتل البنات وبالمائدة من حيث اشتمالها على الأطعمة بأنواعها. وقد يقال: إنه لما كان قطب هذه السورة دائرا على إثبات الصانع ودلائل التوحيد حتى قال أبو إسحاق الأسفراييني: إن في سورة الأنعام كل قواعد التوحيد ناسبت تلك السورة من حيث إن فيها إبطال ألوهية عيسى عليه الصلاة والسلام وتوبيخ الكفرة على اعتقادهم الفاسد وافترائهم الباطل هذا، ثم إنه لما كانت نعمه سبحانه وتعالى مما تفوت الحصر ولا يحيط بها نطاق العد إلا أنها ترجع إجمالا إلى إيجاد وإبقاء في النشأة الأولى وإيجاد وإبقاء في النشأة الآخرة وأشير في الفاتحة التي هي أم الكتاب إلى الجميع، وفي الأنعام إلى الإيجاد الأول، وفي الكهف إلى


الصفحة التالية
Icon