لأريناهم إياه في صورة الرجل وحينئذ يلحقهم فيه من اللبس مثل ما لحق ضعفاءهم منه.
وقرأ ابن محيصن «ولبسنا» بلام واحدة. والزهري «وللبسنا عليهم ما يلبسون» بالتشديد، هذا وقد ذكر الإمام الرازي في بيان وجه الحكمة في جعل الملك على تقدير إنزاله في صورة البشر أمورا. الأول أن الجنس إلى الجنس أميل. الثاني أن البشر لا يطيق رؤية الملك. الثالث أن طاعات الملك قوية فيستحقرون طاعات البشر وربما لا يعذرونهم في الإقدام على المعاصي. الرابع أن النبوة فضل من الله تعالى فيختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا أو بشرا.
ولا يخفى أنه يرد على الوجه الثالث أنه إنما يتم إذا تبدلت حقيقة الملك المقدر نزوله بحقيقة البشر وهو مع كونه من انقلاب الحقائق خلاف ما يفهم من كتب أئمة التفسير من أن التبدل صوري لا حقيقي، وأن الوجه الرابع لا يظهر وجه كونه حكمة لتصوير الملك بصورة البشر.
وقول العلائي: لعل وجهه أن المصور الذي قدر كونه نبيا لما اشتمل على جهتين البشرية صورة والملكية حقيقة لم يبعد أن يكون دليلا على أن النبوة فضل من الله تعالى يختص بها من يشاء من عباده سواء كان ملكا كهذا المصور باعتبار حقيقته أو بشرا مثله باعتبار صورته مما لا يتبلج له وجه القبول.
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ تسلية لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم عما يلقاه من قومه كالوليد بن المغيرة وأمية بن خلف، وأبي جهل، وأضرابهم أي أنك لست أول رسول استهزأ به قومه فكم وكم من رسول جليل الشأن فعل معه ذلك فالتنوين للتفخيم والتكثير ومن ابتداء متعلقة بمحذوف وقع صفة لرسل والكلام على حذف مضاف، وفي تصدير الجملة بالقسم وحرف التحقيق من الاعتناء ما لا يخفى. وكون التسلية بهذا المقدار مما خفي على بعض الفضلاء وهو ظاهر، ولك أن تقول: إن التسلية به وبما بعده من قوله تعالى: فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ لأنه متضمن أن من استهزأ بالرسل عوقب فكأنه سبحانه وتعالى وعده صلّى الله عليه وسلّم بعقوبة من استهزأ به عليه السلام إن أصر على ذلك.
وحاق بمعنى أحاط كما روي عن الضحاك واختاره الزجاج، وفسره الفراء بعاد عليه وبال أمره، وقيل: حل واختاره الطبرسي، وقيل: نزل وهو قريب من سابقه ومعناه يدور على الإحاطة والشمول ولا يكاد يستعمل إلا في السر كما قال:

فأوطأ جرد الخيل عقر ديارهم وحاق بهم من بأس ضربة حائق
وقال الراغب: أصله حق فأبدل من أحد حرفي التضعيف حرف علة. كتظننت، وتظنيت أو هو مثل ذمة وذامة، والمعروف في اللغة ما اختاره الزجاج.
وقال الأزهري: جعل أبو إسحاق حاق بمعنى أحاط وكأنه جعل مادته من الحوق بالضم وهو ما أحاط بالكمرة من حروفها. وقد يفتح كما في القاموس وجعل أحد معاني الحوق بالفتح الإحاطة، وفيه أيضا حاق به يحيق حيقا وحيوقا وحيقانا بفتح الياء أحاط به كأحاق وفيه السيف حاك وبهم الأمر لزمهم ووجب عليهم ونزل، وأحاق الله تعالى بهم مكرهم. والحيق ما يشتمل على الإنسان من مكروه فعله. وظاهره إن حاق يائي وعليه غالب أهل اللغة وهو مخالف لظاهر كلام الأزهري من أنه واوي. ومِنْهُمْ متعلق بسخروا والضمير المرسل. ويقال: سخر منه وبه كهزأ منه وبه فهما متحدان معنى واستعمالا. وقيل: السخرية والاستهزاء بمعنى لكن الأول قد يتعدى بمن والباء. وفي الدر المصون لا يقال إلا استهزأ به ولا يتعدى بمن. وجوز أبو البقاء أن يكون الضمير للمستهزئين والجار والمجرور حينئذ متعلق بمحذوف وقع حالا من ضمير الفاعل في «سخروا» ورد بأن المعنى حينئذ فحاق بالذين سخروا كائنين من المستهزئين


الصفحة التالية
Icon