وقال الزجاج: المراد يبقيكم ولا يستأصلكم بالعذاب كما استأصل أهل القرى الذين كفروا، والخطاب لجميع الأمة بقطع النظر عن كل فرد فرد إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى مقدر عند الله تعالى وهو آخر أعماركم أو آخر أيام الدنيا كما يقتضيه كلام الزجاج، ولا دلالة في الآية على أن للإنسان أجلين كما زعمه المعتزلة وَيُؤْتِ أي يعط كُلَّ ذِي فَضْلٍ أي زيادة في العمل الصالح فَضْلَهُ أي جزاء فضله في الدنيا أو في الآخرة لأن العمل لا يعطي، وقد يقال:
لا حاجة إلى تقدير المضاف، والمراد المبالغة على حد سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ [الأنعام: ١٣٩] والضمير لكل، ويجوز أن يعود إلى الرب، والمراد بالفضل الأول ما أريد به أولا وبالثاني زيادة الثواب بقرينة أن الإعطاء ثواب وحينئذ يستغني عن التأويل.
واختار بعض المحققين التفسير الأول ثم قال: وهذه تكملة لما أجمل من التمتيع إلى أجل مسمى وتبيين لما عسى أن يعسر فهم حكمته من بعض ما يتفق في الدنيا من تفاوت الحال بين العالمين فرب إنسان له فضل طاعة وعمل لا يمتع في الدنيا أكثر مما متع آخر دونه في الفضل وربما يكون المفضول أكثر تمتيعا فقيل: ويعط كل فاضل جزاء فضله إما في الدنيا كما يتفق في بعض المواد وإما في الآخرة وذلك مما لا مرد له انتهى.
ويفهم من كلام بعضهم عدم اعتبار الانفصال على أنه سبحانه ينعم على ذي الفضل في الدنيا والآخرة ولا يختص إحسانه بإحدى الدارين، ولا شك أن كل ذي عمل صالح منعم عليه في الآخرة بما يعلمه الله تعالى وكذا في الدنيا بتزيين العمل الصالح في قلبه والراحة حسب تعليق الرجاء بربه ونحو ذلك ولا إشكال في ذلك كما هو ظاهر للمتأمّل، وقيل: في الآية لف ونشر فإن التمتيع مرتب على الاستغفار وإيتاء الفضل مرتب على التوبة انتهى.
وأيّا ما كان ففي الكلام ضرب تفصيل لما أجمل فيما سبق من البشارة، ثم شرع في الإنذار بقوله سبحانه:
وَإِنْ تَوَلَّوْا أي تستمروا على الإعراض عما ألقي إليكم من التوحيد والاستغفار والتوبة، وأصله تتولوا فهو مضارع مبدوء بتاء الخطاب لأن ما بعده يقتضيه وحذفت منه إحدى التاءين كما فعل في أمثاله، وقيل: إن تَوَلَّوْا ماض غائب فلا حذف ويقدر فيما بعد فقل لهم وهم خلاف الظاهر، وأخر الإنذار عن البشارة جريا على سنن تقدم الرحمة على الغضب أو لأن العذاب قد علق بالتولي عما ذكر من التوحيد وما معه وذلك يستدعي سابقة ذكره.
وقرأ عيسى بن عمرو واليماني «تولوا» بضم التاء وفتح الواو وضم اللام وهو مضارع- ولى- من قولهم: ولى هاربا أي أدبر فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ بمقتضى الشفقة والرأفة أو أتوقع عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ هو يوم القيامة وصف بذلك لكبر ما يكون فيه ولذا وصف بالثقل أيضا، وجوز وصفه بالكبر لكونه كذلك في نفسه، وقيل: المراد به زمان ابتلاهم الله تعالى فيه في الدنيا، وقد روي أنهم ابتلوا بقحط عظيم أكلوا فيه الجيف، وأيّا ما كان ففي إضافة العذاب إليه تهويل وتفظيع له إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ مصدر ميمي وكان قياسه فتح الجيم لأنه من باب ضرب وقياس مصدره الميمي ذلك كما علم من محله، أي إليه تعالى رجوعكم بالموت ثم البعث للجزاء في مثل ذلك اليوم لا إلى غيره جميعا لا يتخلف منكم أحد وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ فيندرج في تلك الكلية قدرته سبحانه على إماتتكم ثم بعثكم وجزائكم فيعذبكم بأفانين العذاب، وهذا تقرير وتأكيد لما سلف من ذكر اليوم وتعليل للخوف.
أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ كأنه جواب سؤال مقدر، وذلك أنه لما ألقي إليهم ما ألقي وسيق إليهم ما سيق من الترغيب والترهيب وقع في ذهن السامع أنهم بعد ما سمعوا مثل هذا المقال الذي تخر له صم الجبال


الصفحة التالية
Icon