ويحصله بعد إلا من قد أحدثه وحصله قبل، وذلك مما لا يمكن لما فيه من تحصيل الحاصل وإحداث المحدث، فإحداث الإيمان وتحصيله بعد مما لا يكون أصلا، وفي الحواشي الشهابية لو قيل: إن الاستثناء منقطع وإن المعنى لا يؤمن أحد بعد ذلك غير هؤلاء لكان معنى بليغا فتدبر، وقرأ أبو البرهسم وَأُوحِيَ مبنيا للفاعل وأنه بكسر الهمزة على إضمار القول على مذهب البصريين وعلى إجراء أُوحِيَ مجرى قال على مذهب الكوفيين، واستدل بالآية من أجاز التكليف بما لا يطاق.
فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ أي لا تلتزم البؤس ولا تحزن بما كانوا يتعاطونه من التكذيب والاستهزاء والإيذاء في هذه المدة الطويلة فقد حان وقت الانتقام منهم وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا عطف على فَلا تَبْتَئِسْ والأمر قيل للوجوب إذ لا سبيل إلى صيانة الروح من الغرق إلا به فيجب كوجوبها، وقيل: للإباحة وليس بشيء، وأل في الْفُلْكَ إما للجنس أو للعهد بناء على أنه أوحي إليه عليه السلام من قبل أن الله سبحانه سيهلكهم بالغرق وينجيه ومن معه بشيء يصنعه بأمره تعالى من شأنه كيت وكيت واسمه كذا، والباء للملابسة والجار والمجرور في موضع الحال من الفاعل، والأعين حقيقة في الجارحة وهي جارية مجرى التمثيل كأن لله سبحانه أعينا تكلؤه من تعدي الكفرة ومن الزيغ في الصنعة، والجمع للمبالغة، وقد انسلخ عنه لإضافته على ما قيل. معنى القلة وأريد به الكثرة، وحينئذ يقوى أمر المبالغة، وزعم بعضهم أن الأعين بمعنى الرقباء وأن في ذلك ما هو من أبلغ أنواع التجريد، وذلك أنهم ينتزعون من نفس الشيء آخر مثله في صفته مبالغة بكمالها كما أنشد أبو علي:
أفات بنو مروان ظلما دماءنا | وفي الله إن لم يعدلوا حكم عدل |
وَلا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا أي لا تراجعني فيهم ولا تدعني باستدفاع العذاب عنهم وفيه من المبالغة ما ليس فيما لو قيل: ولا تدعني فيهم، وحيث كان فيه ما يلوح بما يستتبعه أكد التعليل فقيل: إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ أي محكوم عليهم بالإغراق وقد جرى به القضاء وجف القلم فلا سبيل إلى كفه، والظاهر أن المراد من الموصول من لم يؤمن من قومه مطلقا، وقيل: المراد واعلة زوجته وكنعان ابنه وليس بشيء وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية لاستحضار صورتها العجيبة.