وأجاب الآمدي بأنه بمعنى أعظم من يدعي بهذا الاسم، واستشكل بأن فيه جعل التفاضل في غير ما وضع اللفظ بإزائه وهو يناسب مذهب المعتزلة فافهم، وقيل: المعنى هنا أنك أكثر حكمة من ذوي الحكم على أن الحاكم من الحكم كالدارع من الدرع، واعترض عليه بأن الباب ليس بقياسي وأنه لم يسمع حاكم بمعنى حكيم وأنه لا يبنى منه أفعل إذا لأنه ليس جاريا على الفعل لا يقال: ألبن وأتمر من فلان إذا لا فعل بذلك المعنى، والجواب بأنه قد كثر في كلامهم فجوز على أن يكون وجها مرجوحا وبأنه من قبيل أحنك الشاتين لا يخلو عن تعسف كما في الكشف، وتعقب بأن للحكمة فعلا ثلاثيا وهو حكم، وأفعل من الثلاثي مقيس، وأيضا سمع احتنك الجراد وألبن وأتمر فغايته أن يكون من غير الثلاثي ولا يخفى ما فيه، ومنهم من فسره على هذا بأعلمهم بالحكمة كقولهم: آبل من أبل بمعنى أعلم وأحذق بأمر الإبل، وأيا ما كان فهذا النداء منه عليه السلام يقطر منه الاستعطاف، وجميل التوسل إلى من عهده منعما مفضلا في شأنه أولا وآخرا وهو على طريقة دعاء أيوب عليه السلام إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ [الأنبياء:
٨٣] فيكون ذلك قبل الغرق، والواو لا تقتضي الترتيب، وقيل: إن النداء إنما كان بعده والمقصود منه الاستفسار عن سبب عدم إنجائه مع سبق وعده تعالى بإنجاء أهله وهو منهم، وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا تمام الكلام في ذلك قالَ استئناف بياني كأنه قيل، ما قال له ربه سبحانه حين ناداه بذلك؟ فقيل: قال: يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ أي ليس منهم أصلا لأن مدار الأهلية هو القرابة الدينية وقد انقطعت بالكفر فلا علاقة بين مسلم وكافر ولذا لم يتوارثا، وقد ذكروا أن قرابة الدين أقرب من قرابة النسب كما أشار إلى ذلك أبو فراس بقوله:
كانت مودة سلمان له نسبا | ولم يكن بين نوح وابنه رحم |
أو لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ الذين أمرتك بحملهم في الفلك لخروجه عنهم بالاستثناء، وحكي هذا عن ابن جرير وعكرمة، والأول عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى القولين ليس هو من الذين وعد بإنجائهم، وكأنه لما كان دعاؤه عليه السلام بتذكير وعده جل ذكره مبنيا على كون كنعان من أهله نفى أولا كونه منهم، ثم علل عدم كونه منهم على طريقة الاستئناف التحقيقي بقوله سبحانه: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وأصله إنه ذو عمل فاسد فحذف ذو للمبالغة بجعله عين عمله لمداومته عليه، ولا يقدر المضاف لأنه حينئذ تفوت المبالغة المقصودة منه، ونظير ذلك ما في قول الخنساء ترثي أخاها صخرا.
ما أم سقب على بو تحن له | قد ساعدتها على التحنان آظار |
ترتع ما رتعت حتى إذا ادّكرت | فإنما هي إقبال وإدبار |
يوما بأوجع مني حين فارقني | صخر وللعيش إحلاء وإمرار |
وأبدل فاسد بغير- صالح- إما لأن الفاسد ربما يطلق على ما فسد ومن شأنه الصلاح فلا يكون نصا فيما هو من قبيل الفاسد المحض كالمظالم، وإما للتلويح بأن نجاة من نجا إنما هو لصلاحه.
وقرأ الكسائي ويعقوب
«إنه عمل غير صالح» على صيغة الماضي، ونصب
«غير» وهي قراءة عليّ كرم الله تعالى وجهه وابن عباس وأنس وعائشة، وقد روتها هي وأم سلمة عن النبي صلّى الله عليه وسلّم، والأصل عمل عملا غير صالح، وبه قرىء أيضا كما روي عن عكرمة فحذف الموصوف وأقيمت صفته مقامه، وذلك شائع مطرد عند انكشاف المعنى وزوال اللبس، وضعفه بعضهم هنا بأن العرب لا تكاد تقول: عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ وإنما تقول عمل عملا غير صالح، وليس بشيء، وأيد بهذه القراءة كون ضمير إنه في القراءة الأولى لابن نوح لأنه فيها له قطعا فيضعف ما قيل: إنه في الأولى لترك الركوب معهم والتخلف عنهم أي إن ذلك الترك عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ على أنه خلاف الظاهر في نفسه كما لا