وذكر بعض أكابر الصوفية ما يقرب من هذا، وهو: أن الرؤيا من أحكام حضرة المثال المقيد المسمى بالخيال وهو قد يتأثر من العقول السماوية والنفوس الناطقة المدركة للمعاني الكلية والجزئية فيظهر فيه صور مناسبة لتلك المعاني وقد يتأثر من القوى الوهمية المدركة للمعاني الجزئية فقط فيظهر فيه صورة تناسبها، وهذا قد يكون بسبب سوء مزاج الدماغ وقد يكون بسبب توجه النفس بالقوة الوهمية الى إيجاد صورة من الصور كمن يتخيل صورة محبوبه الغائب عنه تخيلا قويا فتظهر صورته في خياله فيشاهده، وهي أول مبادئ الوحي الإلهي في أهل العناية لأن الوحي لا يكون إلا بنزول الملك وأول نزوله في الحضرة الخيالية ثم الحسية،
وقد صح عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنها قالت: «أول ما بدىء به رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح»
والمرئي على ما قال بعضهم: سواء كان على صورته الأصلية أو لا قد يكون بإرادة المرئي. وقد يكون بإرادة الرائي وقد يكون بإرادتهما معا. وقد يكون لا بإرادة من شيء منهما، فالأول كظهور الملك على نبي من الأنبياء عليهم السلام في صورة من الصور وظهور الكمل من الأناسي على بعض الصالحين في صور غير صورهم، والثاني كظهور روح من الأرواح الملكية أو الإنسانية باستنزال الكامل إياه الى عالمه ليكشف معنى ما مختصا علمه به، والثالث كظهور جبريل عليه السلام للنبي صلى الله تعالى عليه وسلم باستنزاله إياه وبعث الحق سبحانه إياه إليه صلى الله تعالى عليه وسلم، والرابع كرؤية زيد مثلا صورة عمرو في النوم من غير قصد وإرادة منهما، وكانت رؤيا يوسف عليه السلام من هذا القسم لظهور أنها لو كانت بإرادة الأخوة لعلموا فلم يكن للنهي عن الاقتصاص معنى، ويشير الى انها لم تكن بقصده قوله بعد: قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا [يوسف: ١٠٠].
هذا والمنقول عن المتكلمين أنها خيالات باطلة وهو من الغرابة بمكان بعد شهادة الكتاب والسنة بصحتها، ووجه ذلك بعض المحققين بأن مرادهم أن كون ما يتخيله النائم إدراكا بالبصر رؤية، وكون ما يتخيله إدراكا بالسمع سمعا باطل فلا ينافي حقيقة ذلك بمعنى كونه أمارة لبعض الأشياء كذلك الشيء نفسه أو ما يضاهيه ويحاكيه، وقد مر الكلام في ذلك فتيقظ.
والمشهور الذي تعاضدت فيه الروايات أن الرؤيا الصادقة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة، ووجه ذلك عند جمع أنه صلى الله تعالى عليه وسلم بقي حسبما أشارت عائشة رضي الله تعالى عنها ستة أشهر يرى الوحي مناما ثم جاءه الملك يقظة وستة أشهر بالنسبة الى ثلاث وعشرين سنة جزء من ست وأربعين جزءا.
وذكر الحليمي أن الوحي كان يأتيه عليه الصلاة والسلام على ستة وأربعين نوعا: مثل النفث في الروع، وتمثل الملك له بصورة دحية رضي الله تعالى عنه مثلا وسماعه مثل صلصلة الجرس الى غير ذلك، ولذا قال صلى الله تعالى عليه وسلم ما قال، وذكر الحافظ العسقلاني أن كون الرؤيا الصادقة جزء من كذا من النبوة إنما هو باعتبار صدقها لا غير وإلا لساغ لصاحبها أن يسمى نبيا وليس كذلك، وقد تقدم لك أن في بعض الروايات ما فيه مخالفة لما في هذه الرواية من عدة الأجزاء، ولعل المقصود من كل ذلك على ما قيل: مدح الرؤيا الصادقة والتنويه برفعة شأنها لا خصوصية العدد ولا حقيقة الجزئية.
وقال ابن الأثير في جامع الأصول: روى قليل أنها جزء من خمسة وأربعين جزءا وله وجه مناسبة بأن عمره صلى الله تعالى عليه وسلم لم يستكمل ثلاثا وستين بأن يكون توفي عليه الصلاة والسلام بأثناء السنة الثالثة والستين
ورواية أنها جزء من أربعين جزءا
تكون محمولة على كون عمره عليه الصلاة والسلام ستين وهو رواية لبعضهم،
وروي أنها جزء من سبعين جزءا
ولا أعلم لذلك وجها اهـ.
وأنت تعلم أن سبعين كثيرا ما يستعمل في التكثير فلعله هو الوجه، والغرض الإشارة الى كثرة أجزاء النبوة فتدبر،


الصفحة التالية
Icon