فألقيتموه في غيابة الجب فأتيتم أباكم فقلتم: إن الذئب أكله وجئتم على قميصه بدم كذب، فقال بعضهم لبعض: إن هذا الجام ليخبره بخبركم، ثم قال ابن عباس: فلا نرى هذه الآية لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ إلخ نزلت إلّا في ذلك، وجوز أن يتعلق وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ بالإيحاء على معنى أنا آنسناه بالوحي وأنزلنا عن قلبه الوحشة التي أورثوه إياها وهم لا يشعرون بذلك ويحسبون أنه مستوحش لا أنيس له.
وروي ذلك عن قتادة، وكان هذا الإيحاء وهو عليه السلام ابن ست عند الضحاك واثنتي عشرة سنة أو ثماني عشرة سنة عند الحسن وسبع عشرة سنة عند ابن السائب- وهو الذي يزعمه اليهود- وقيل غير ذلك، ومن نظر في الآيات ظهر له أن الراجح كونه عليه السّلام لم يبلغ الحلم إذ ذاك، وعلى جميع الأقوال أنه عليه السّلام لم يكن بالغا الأربعين عند الإيحاء إليه، نعم أكثر الأنبياء عليهم السّلام نبئوا في سن الأربعين وقد أوحي إلى بعضهم- كيحيى، وعيسى عليهما السلام- قبل ذلك بكثير.
وزعم بعضهم أن ضمير إِلَيْهِ يعود على يعقوب عليه السّلام وليس بشيء كما لا يخفى، وقرأ ابن عمر رضي الله تعالى عنهما لينبئنهم بياء الغيبة وكذا في مصاحف البصرة.
وقرأ سلام بالنون على أنه وعيد لهم، فقوله سبحانه: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ متعلق- بأوحينا- لا غير على ما قاله الزمخشري ومن تبعه، ونظر فيه بأنه يجوز أن يتعلق أيضا بقوله تعالى: لَتُنَبِّئَنَّهُمْ وأن يراد بإنباء الله تعالى إيصال فعلهم به عليه السّلام وهم لا يشعرون بذلك، ودفع بأنه بناء على الظاهر وأنه لا يجتمع إنباء الله تعالى مع عدم شعورهم بما أنبأهم به إلّا بتأويل كتقدير لنعلمنهم بعظيم ما ارتكبوه قبل وهم لا يشعرون بما فيه وَجاؤُ أَباهُمْ عِشاءً أي في ذلك الوقت وهو- كما قال الراغب- من صلاة المغرب إلى العتمة والعشاءان: المغرب، والعتمة.
وعن الحسن أنه قرأ- عشيا- بضم العين وفتح الشين وتشديد الياء منونا وهو تصغير عشي وهو من زوال الشمس إلى الصباح، وعنه أنه قرأ- عشي- بالضم والقصر كدجى فنصبه على الحال وهو جمع أعشى عند بعض وعاش عند آخرين، وأصله عشاة كماش ومشاة فحذفت الهاء تخفيفا، وأورد عليهما بأنه لا جواز لمثل هذا الحذف وأنه لا يجمع أفعل فعلاء على فعل بضم الفاء وفتح العين بل فعل بسكون العين، ولذا قيل: كان أصله عشوا فنقلت حركة الواو إلى ما قبلها لكونه حرفا صحيحا ساكنا ثم حذفت بعد قلبها ألفا لالتقاء الساكنين وإن قدر ما بكوا به في ذلك اليوم لا يعشو منه الإنسان وأجيب عن هذا بأن المقصود المبالغة في شدة البكاء والنحيب لا حقيقته أي كاد يضعف بصرهم لكثرة البكاء، وقيل: هو جمع عشوة مثلث العين وهي ركوب أمر على غير بصيرة يقال: أوطأه عشوة أي أمرا ملتبسا يوقعه في حيرة وبلية فيكون تأكيدا لكذبهم وهو تمييز أو مفعول له، وجوز أن يكون جمع عشوة بالضم بمعنى شعلة النار عبارة عن سرعتهم لابتهاجهم بما فعلوا من العظيمة وافتعلوا من (١) العضيهة، وجوز أن يكون عِشاءً في قراءة الجمهور جمع عاش مثل راع ورعاء ويكون نصبه على الحال، والظاهر الأول، وإنما- جاؤوا عشاء- إما لأنهم لم يصلوا من مكانهم إلا في ذلك الوقت، وإما ليكونوا أقدر على الاعتذار لمكان الظلمة التي يرتفع فيها الحياء، ولذا قيل: لا تطلب الحاجة بالليل فإن الحياء في العينين ولا تعتذر في النهار من ذنب فتلجلج في الاعتذار وهل جاؤوا في عشاء اليوم الذي ذهبوا فيه أو في عشاء يوم آخر؟ ظاهر كلام بعضهم الأول، وذهب بعضهم إلى الثاني بناء على ما روي أنه عليه السّلام مكث في الجب ثلاثة أيام وكان إخوته يرعون حواليه وكان يهوذا يأتيه بالطعام.

(١) البهتان اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon