الذلة سببها مجازا، ولا يحتاج إليه كما لا يخفى لأن التذكير في مجازي التأنيث لا سيما المفصول كثير جدا.
والواو على ما قال غير واحد للعطف وما بعده معطوف على كَسَبُوا وضعفه أبو البقاء بأن المستقبل لا يعطف على الماضي. وأجيب بالمنع، وفي العطف هاهنا ما لا يخفى من المبالغة حيث أخرج نسبة الرهق إليهم يوم القيامة مخرج المعلوم حيث جعل ذلك بواسطة العطف صلة الموصول، وقيل: إنه عطف على ما قبله بحسب المعنى كأنه قيل: والذين كسبوا السيئات تجازى سيئتهم بمثلها وترهقهم ذلة ولعله أولى من الأول، وأما جعل الواو حالية والجملة في موضع الحال من ضمير كَسَبُوا فلا يخفى حاله ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ أي ما لهم أحد يعصمهم ويمنعهم من سخط الله تعالى وعذابه فمن الأولى متعلقة بعاصم والكلام على حذف مضاف ومِنَ الثانية زائدة لتعميم النفي، أو ما لهم من جهته وعنده تعالى من يعصمهم كما يكون للمؤمنين فمن الأولى متعلقة بمحذوف وقع حالا من عاصِمٍ وقيل متعلقة بالاستقرار المفهوم من الظرف وليس في الكلام مضاف محذوف، ومِنَ الثانية على حالها والجملة مستأنفة أو حال من ضمير تَرْهَقُهُمْ وفي نفي العاصم من المبالغة في نفي العصمة ما لا يخفى كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ أي كأنما ألبست ذلك لفرط سوادها وظلمتها، والجار والمجرور صفة قِطَعاً وقوله سبحانه: مُظْلِماً حال من اللَّيْلِ والعامل فيه متعلق الجار والمجرور فعلا كان أو اسما.
وجوز أبو البقاء كونه حالا من قِطَعاً أو صفة له، وكان الواجب الجمع لأن قِطَعاً جمع قطعة إلا أنه أفردت حاله أو صفته لتأويل ذلك بكثير ولا يخفى أنه تكلف مستغنى عنه، والظاهر أن مِنَ للتبعيض، وقال بعض المحققين: لليل معنيان زمان تخفى فيه الشمس قليلا أو كثيرا كما يقال دخل الليل والآن ليل وما بين غروب الشمس إلى طلوعها أو قربها من الطلوع، فمن إما تبعيضية على الأول وبيانية على الثاني، وجوز الزمخشري أن يكون العامل في الحال أُغْشِيَتْ من قبل أن مِنَ اللَّيْلِ صفة لقطعا فكان إفضاؤه إلى الموصوف كإفضائه إلى الصفة. قال صاحب التقريب: وفيه نظر لأن مِنَ اللَّيْلِ ليس صلة أغشيت حتى يكون عاملا في المجرور بل التقدير أنه صفة فيكون العامل فيه الاستقرار، وأيضا الصفة مِنَ اللَّيْلِ وذو الحال هو- الليل- فلا يكون أُغْشِيَتْ عاملا في ذي الحال مع أنه المقصود وقد يقال: إن مِنَ للتبيين والتقدير كائنة من الليل فأغشيت عامل في الصفة وهي كائنة فكأنه عامل في اللَّيْلِ وهو مبني على أن العامل في العامل في الشيء عامل فيه وهو فاسد فالوجه أن يقال: إن مِنَ للتبعيض أي بعض الليل ويكون بدلا من قِطَعاً ويجعل مُظْلِماً حالا من البعض لا مِنَ اللَّيْلِ فيكون العامل في ذي الحال أُغْشِيَتْ ولا يخفى أنه وجه أغشى قطعا من ليل التكلف والتعسف مظلما. وأجاب الإمام أمين الدين بأن نسبة أُغْشِيَتْ إلى قِطَعاً إنما هي باعتبار ذاتها المبهمة المفسرة بالليل لا باعتبار مفهوم القطع في نفسها وإنما ذكرت لبيان مقدار ما أغشيت به وجوههم وهو الليل مظلما فإفضاء الفعل إلى قِطَعاً باعتبار ما لا يتم معناها المراد إلا به كإفضاء الفعل إليه كما إذا قيل: اشتريت أرطالا من الزيت صافيا فإن المشترى فيه الزيت والأرطال مبنية لمقدار ما اشترى صافيا فالعامل في الحال إنما هو العامل اللفظي ولا يلاحظ معنى الفعل في الجار والمجرور من جهة العمل لغلبة العامل اللفظي عليه بالظهور ولا يخفى ما فيه. وقال في الكشف: إن الزمخشري ذهب إلى أن أُغْشِيَتْ له اتصال بقوله تعالى: مِنَ اللَّيْلِ من قبل أن الصفة والموصوف متحدان لا سيما والقطع بعض الليل فجاز أن يكون عاملا في الصفة بذلك الاعتبار وكأنه قيل أغشيت الليل مظلما وهذا كما جوز في نحو وَنَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً [الحجر: ٤٧] أن يكون حالا من الضمير باعتبار اتحاده بالمضاف وكأنه قيل: ونزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا وكما جوز في مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً


الصفحة التالية
Icon