وَالَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ الظاهر العموم في كل ما أمر الله تعالى به في كتابه وعلى لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، وقال الحسن: المراد صلة الرسول ﷺ بالإيمان به، وروي نحوه عن ابن جبير، وقال قتادة: المراد صلة الأرحام، وقيل: صلة الإيمان بالعمل، وقيل: صلة قرابة الإسلام بإفشاء السلام وعيادة المرضى وشهود الجنائز ومراعاة حق الجيران والرفقاء والخدم، ومن ذهب إلى العموم أدخل في ذلك الأنبياء عليهم السلام ووصلهم أن يؤمن بهم جميعا ولا يفرق بين أحد منهم والناس على اختلاف طبقاتهم ووصلهم بمراعاة حقوقهم بل سائر الحيوانات ووصلها بمراعاة ما يطلب في حقها وجوبا أو ندبا، وعن الفضيل بن عياض أن جماعة دخلوا عليه بمكة فقال: من أين أنتم؟ قالوا: من أهل خراسان (١)
قالوا: اتقوا الله تعالى وكونوا من حيث شئتم واعلموا أن العبد لو أحسن الإحسان كله وكانت له دجاجة فأساء إليها لم يكن محسنا، ومفعول «أمر» محذوف والتقدير ما أمرهم الله به، و «أن يوصل» بدل من الضمير المجرور أي ما أمر الله بوصله وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أي وعيده سبحانه والظاهر أن المراد به مطلقا، وقيل: المراد وعيده تعالى على قطع ما أمروا بوصله وَيَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا، وهذا من قبيل ذكر الخاص بعد العام للاهتمام، والخشية والخوف قيل بمعنى، وفي فروق العسكري أن الخوف يتعلق بالمكروه ومنزله تقول خفت زيدا وخفت المرض والخشية تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه، ولذا قال سبحانه: «يخشون» أولا «ويخافون» ثانيا، وعليه فلا يكون اعتبار الوعيد في محله، لكن هذا غير مسلم لقوله تعالى: «خشية إملاق» و «لمن خشي العنت منكم» وفرق الراغب بينهما فقال: الخشية خوف يشوبه تعظيم وأكثر ما يكون ذلك عن علم ولذلك خص العلماء بها في قوله تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ [فاطر: ٢٨].
وقال بعضهم: الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة ولذا خصت بالرب في هذه الآية، وفرق بينهما أيضا بأن الخشية تكون من عظم المخشي وإن كان الخاشي قويا والخوف من ضعف الخائف وإن كان المخوف أمرا يسيرا، يدل على ذلك أن تقاليب الخاء والشين والياء تدل على الغفلة وفالتدبر، والحق أن مثل هذه الفروق أغلبي لا كلي وضعي ولذا لم يفرق كثير بينهما، نعم اختار الإمام ان المراد من يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ أنهم يخافونه خوف مهابة وجلالة زاعما أنه لولا ذلك يلزم التكرار وفيه ما فيه. وَالَّذِينَ صَبَرُوا على كل ما تكرهه النفس من المصائب المالية والبدنية وما يخالفه هوى النفس كالانتقام ونحوه ويدخل فيما ذكر التكاليف ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه تعالى من غير أن ينظروا إلى جانب الخلق رياء أو سمعة ولا إلى جانب أنفسهم زينة وعجبا، وقيل:
المراد طالبين ذلك فنصب ابْتِغاءَ على الحالية وعلى الأول هو منصوب على أنه مفعول له، والكلام في مثل الوجه منسوبا إليه تعالى شهير.
وفي البحر أن الظاهر منه هاهنا جهة الله تعالى أي الجهة التي تقصد عنده سبحانه بالحسنات ليقع عليها المثوبة كما يقال: خرج زيد لوجه كذا، وفيه أيضا أنه جاءت الصلة هنا بلفظ الماضي وفيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن المبتدأ في معنى اسم الشرط والماضي كالمضارع في اسم الشرط فكذلك فيما أشبهه: ولذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي وإن يراد به الاستقبال، فمن الأول الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ [آل عمران: ١٧٣] ومن الثاني إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ [المائدة: ٣٤١]

(١) كأنهم تعرفوا إليه بأنهم من منشئه فأجاب بأن الجامع التقوى لا المولد، وقيل: كأنهم افتخروا بأنهم من خراسان والأول أولى اه منه.


الصفحة التالية
Icon