على سننه أمر محقق غني عن الذكر والبيان. وفي الكشف وجه التعقيب عن السابق كوجهه في قوله تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً [البقرة: ٢٦] على معنى أرسلنا الكتاب للتبين فمنهم من نفعناه بذلك البيان ومنهم من جعلناه حجة عليه، والفاء على هذه تفصيلية، والعدول إلى صيغة الاستقبال لاستحضار الصورة أو الدلالة على التجدد والاستمرار حيث تجدد البيان من الرسل عليهم السلام المتعاقبة عليهم، وتقديم الإضلال على الهداية- كما قال بعض المحققين- إما لأنه إبقاء ما كان على ما كان والهداية إنشاء ما لم يكن أو للمبالغة في بيان أنه لا تأثير للتبيين والتذكير من قبل الرسل عليهم السلام وأن مدار الأمر إنما هو مشيئته تعالى بإيهام أن ترتب الضلالة أسرع من ترتب الاهتداء، وهذا محقق لما سلف من تقييد لإخراج من الظلمات إلى النور بإذن ربهم وَهُوَ الْعَزِيزُ فلا يغالب في مشيئته تعالى الْحَكِيمُ فلا يشاء ما يشاء إلا لحكمة بالغة، وفيه كما في البحر وغيره أن ما فوض إلى الرسول عليهم الصلاة والسلام إنما هو التبليغ وتبيين طريق الحق، وأما الهداية والإرشاد إليه فذلك بيد الله تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد.
ثم إن هذه الآية ظاهرة في مذهب أهل السنة من أن الضلالة والهداية بخلقه سبحانه، وقد ذكر المعتزلة لها عدة تأويلات، وللإمام فيها كلام طويل إن أردته فارجع إليه وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى شروع في تفصيل ما أجمل في قوله تعالى: وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ الآية بِآياتِنا أي ملتبسا بها وهي كما أخرج ابن جرير. وغيره عن مجاهد. وعطاء. وعبيد بن عمير الآيات التسع التي أجراها الله تعالى على يده عليه السلام، وقيل: يجوز أن يراد بها آيات التوراة أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ بمعنى أي أخرج- فإن- تفسيرية لأن في الإرسال معنى القول دون حروفه أو بأن أخرج فهي مصدرية حذف قبلها حرف الجر لأن أرسل يتعدى بالباء، والجار يطرد حذفه قبل أن وأن، واتصال المصدرية بالأمر أمر مر تحقيقه.
وزعم بعضهم أن أَنْ هنا زائدة ولا يخفى ضعفه، والمراد من قومه عليه السلام كما هو الظاهر بنو إسرائيل ومن إخراجهم إخراجهم بعد مهلك فرعون مِنَ الظُّلُماتِ من الكفر والجهالات التي كانوا فيها وأدت بهم إلى أن يقولوا: يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ [الأعراف: ١٣٨] إِلَى النُّورِ إلى الإيمان بالله تعالى وتوحيده وسائر ما أمروا به، وقيل: أخرجهم من ظلمات النقص إلى نور الكمال وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ أي بنعمائه وبلائه كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، واختاره الطبري لأنه الأنسب بالمقام والأوفق بما سيأتي إن شاء الله تعالى من الكلام، والعطف على أَخْرِجْ وجوز أن تكون الجملة مستأنفة، والالتفات من التكلم إلى الغيبة بإضافة الأيام إلى الاسم الجليل للإيذان بفخامة شأنها والإشعار- على ما قيل- بعدم اختصاص ما فيها من المعاملة بالمخاطب وقومه كما يوهمه الإضافة إلى ضمير المتكلم، وحاصل المعنى عظهم بالترغيب والترهيب والوعد والوعيد. وعن ابن عباس أيضا والربيع ومقاتل وابن زيد المراد- بأيام الله- وقائعه سبحانه ونقماته في الأمم الخالية، ومن ذلك أيام العرب لحروبها وملاحمها كيوم ذي قار ويوم الفجار ويوم قضة وغيرها، واستظهره الزمخشري للغلبة العرفية وأن العرب استعملته للوقائع، وأنشد الطبرسي لذلك قول عمرو بن كلثوم:
وأيام لنا غرر طوال... عصينا الملك فيها إن ندينا
وأنشده الشهاب للمعنى السابق، وأنشد لهذا قوله:
وأيامنا مشهورة في عدونا
وأخرج النسائي وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند. والبيهقي في شعب الإيمان. وغيرهم عن أبي بن كعب عن النبي ﷺ أنه فسر الأيام في الآية بنعم الله تعالى وآلائه، وروى ذلك ابن المنذر عن ابن عباس ومجاهد
وجعل أبو


الصفحة التالية
Icon