فالمقام اسم مكان وإضافته إلى ضميره تعالى لكونه بين يديه سبحانه، وقال الفراء: هو مصدر ميمي أضيف إلى الفاعل أي خاف قيامي عليه بالحفظ لأعماله ومراقبتي إياه، وقيل: المراد إقامتي على العدل والصواب وعدم الميل عن ذلك.
وقيل: لفظ مقام مقحم لأن الخوف من الله تعالى أي لمن خافني وَخافَ وَعِيدِ أي وعيدي بالعذاب فياء المتكلم محذوفة للاكتفاء بالكسرة عنها في غير الوقف. والوعيد على ظاهره ومتعلقه محذوف، وجوز أن يكون مصدرا من الوعد على وزن فعيل وهو بمعنى اسم المفعول أي عذابي الموعود للكفار: وفيه استعارة الوعد للإيعاد، والمراد بمن خاف على ما أشير إليه في الكشاف المتقون، ووقوع ذلك إلى آخره بعد وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ موقع وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ في قصة موسى عليه السلام حيث قال لقومه: اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ [الأعراف: ١٢٨] وَاسْتَفْتَحُوا أي استنصروا الله تعالى على أعدائهم كقوله تعالى: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ [الأنفال: ١٩] ويجوز أن يكون من الفتاحة أي الحكومة أي استحكموا الله تعالى وطلبوا منه القضاء بينهم كقوله تعالى: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ [الأعراف: ٨٩] والضمير المرسل عليهم السلام كما روي عن قتادة وغيره، والعطف على فَأَوْحى ويؤيد ذلك قراءة ابن عباس.
ومجاهد وابن محيصن «واستفتحوا» بكسر التاء أمرا للرسل عليهم السلام معطوفا على «ليهلكن» فهو داخل تحت الموحى، والواو من الحكاية دون المحكي، وقيل: ما قبله لإنشاء الوعد فلا يلزم عطف الإنشاء على الخبر مع أن مذهب بعضهم تجويزه، وأخر على القراءتين عن قوله تعالى: لَنُهْلِكَنَّ أو- أوحى إليهم- على ما في الكشف دلالة على أنهم لم يزالوا داعين إلى أن تحقق الموعود من إهلاك الظالمين، وذلك لأن لَنُهْلِكَنَّ وعد وإنما حقيقة الإجابة حين الإهلاك، وليس من تفويض الترتيب إلى ذهن السامع في شيء ولا ذلك من مقامه كما توهم. وقال ابن زيد:
الضمير للكفار والعطف حينئذ على قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي قالوا ذلك واستفتحوا على نحو ما قال قريش: عَجِّلْ لَنا قِطَّنا [ص: ١٦] وكأنهم لما قوي تكذيبهم وأذاهم ولم يعاجلوا بالعقوبة ظنوا أن ما قيل لهم باطل فاستفتحوا على سبيل التهكم والاستهزاء كقول قوم نوح: فَأْتِنا بِما تَعِدُنا [هود: ٣٢] وقوم شعيب فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً [الشعراء:
١٨٧] إلى غير ذلك، وقيل: الضمير للرسل عليهم السلام ومكذبيهم لأنهم كانوا كلهم سألوا الله تعالى أن ينصر المحق ويهلك المبطل، وجعل بعضهم العطف على فَأَوْحى على هذا أيضا بل ظاهر كلام بعض أن العطف عليه على القراءة المشهورة مطلقا، وسيأتي إن شاء الله تعالى احتمال آخر في الضمير ذكره الزمخشري.
وَخابَ أي خسر وهلك كُلُّ جَبَّارٍ متكبر عن عبادة الله تعالى وطاعته، وقال الراغب: الجبار في صفة الإنسان يقال لمن يجبر نقيصته بادعاء منزلة من التعالي لا يستحقها، ولا يقال إلا على طريق الذم عَنِيدٍ معاند للحق مباه بما عنده، وجاء فعيل بمعنى مفاعل كثيرا كخليط بمعنى مخالط ورضيع بمعنى مراضع، وذكر أبو عبيدة إن اشتقاق ذلك من العند وهو الناحية، ولذا قال مجاهد: العنيد مجانب الحق، قيل: والوصف الأول إشارة إلى ذمه باعتبار الخلق النفساني والثاني إلى ذمة باعتبار الأثر الصادر عن ذلك الخلق وهو كونه مجانبا منحرفا عن الحق، وفي الكلام إيجاز الحذف بحذف الفاء الفصيحة والمعطوف عليه أي استفتحوا ففتح لهم وظفروا بما سألوا وأفلحوا وخاب كل جبار عنيد وهم قومهم المعاندون فالخيبة بمعنى مطلق الحرمات دون الحرمان عن المطلوب أو ذلك باعتبار أنهم كانوا يزعمون أنهم على الحق، هذا إذا كان ضمير اسْتَفْتَحُوا للرسل عليهم السلام، وأما إذا كان للكفار فالعطف كما في البحر على اسْتَفْتَحُوا أي استفتح الكفار على الرسل عليهم السلام وخابوا ولم يفلحوا، وإنما وضع كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ موضع ضميرهم ذما لهم وتسجيلا عليهم بالتجبر والعناد لا أن بعضهم ليسوا كذلك ولم تصبهم الخيبة، ويقدر إذا كان الضمير للرسل عليهم السلام وللكفرة استفتحوا جميعا فنصر الرسل وخاب كل عات متمرد، والخيبة


الصفحة التالية
Icon