وقد قلد هؤلاء الطاغين جماعة، وقد وهموا طعنا وتقليدا فإن القراءة متواترة عن السلف والخلف فلا يجوز أن يقال فيها: إنها خطأ أو قبيحة أو رديئة، وقد نقل جماعة من العلماء أنها لغة لكنه قل استعمالها.
ونص قطرب على أنها لغة في بني يربوع فإنهم يكسرون ياء المتكلم إذا كان قبلها ياء أخرى ويصلونها بها كعليه ولديه، وقد يكتفون بالكسرة وذلك لغة أهل الموصل وكثير من الناس اليوم، وقد حسنها أبو عمرو وهو إمام لغة وإمام نحو إمام قراءة وعربيّ صحيح، ورووا بيت النابغة:

عليّ لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
بكسر ياء- على- فيه، وأنشدوا لذلك أيضا البيت السابق وهو للأغلب العجلي، وجهل الزمخشري به كالزجاج لا يلتفت إليه، وقوله: إن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة إلى آخره مردود بأنه روي سكون الياء بعد الألف، وقرأ به القراء في مَحْيايَ [الأنعام: ١٦٢] وما ذكره أيضا قياس مع الفارق فإنه لا يلزم من كسرها مع الياء المجانسة للكسرة كسرها مع الألف الغير المجانية لها ولذا فتحت بعدها للمجانسة وكون الأصل في هذا الياء الفتح في كل موضع غير مسلم كيف وهي من المبنيات والأصل في المبني أن يبنى على السكون. ومن الناس من وجه القراءة بأنها على لغة من يزيد ياء على ياء الإضافة إجراء لها مجرى هاء الضمير وكافه، فإن الهاء قد توصل بالواو إذا كانت مضمومة كهذا لهو وضربهو، وبالياء إذا كانت مكسورة نحو بهي، والكاف قد تلحقها الزيادة فيقال أعطيتكاه وأعطيتكيه إلا أنه حذفت الياء هنا اكتفاء بالكسرة، وقال البصير: كسر الياء ليكون طبقا لكسر الهمزة في قوله: إِنِّي كَفَرْتُ لأنه أراد الوصل دون الوقف والابتداء بذلك والكسر أدل على الوصل من الفتح وفيه نظر، وبالجملة لا ريب في صحة تلك القراءة وهي لغة فصيحة، وقد روي أنه تكلم بها رسول الله ﷺ في حديث بدء الوحي وشرح حاله عليه الصلاة والسلام لورقة بن نوفل رضي الله تعالى عنه فانكارها محض جهالة، وأراد بقوله: إِنِّي كَفَرْتُ إني كفرت اليوم بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ أي من قبل هذا اليوم- يعني في الدنيا-.
وما مصدرية ومِنْ متعلقة بأشركتموني أي كفرت باشراككم إياي لله تعالى في الطاعة لأنهم كانوا يطيعونه في أعمال الشر كما يطاع الله تعالى في أعمال الخير، فالإشراك استعارة بتشبيه الطاعة به وتنزيلها منزلته أو لأنهم لما أشركوا الأصنام ونحوها بإيقاعه لهم في ذلك فكأنهم أشركوه، والكفر مجاز عن التبري كما في قوله تعالى:
وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ [فاطر: ١٤] ومراد اللعين أنه إن كان اشراككم لي بالله تعالى هو الذي أطمعكم في نصرتي لكم وخيل إليكم أن لكم حقا علي فإني تبرأت من ذلك ولم أحمده فلم يبق بيني وبينكم علاقة، وإرادة اليوم حسبما ذكرنا هو الظاهر فيكون الكلام محمولا على إنشاء التبري منهم يوم القيامة. وجوز النسفي أن يكون إخبارا عن أنه تبرأ منهم في الدنيا فيكون مِنْ قَبْلُ متعلقا- بكفرت- أو متنازعا فيه.
وجوز غير واحد أن تكون ما موصولة بمعنى من كما قيل في قولهم: سبحانه ما سخركن لنا، والعائد محذوف ومِنْ قَبْلُ متعلق- بكفرت- أي إني كفرت من قبل حين أبيت السجود لآدم عليه السلام بالذي أشركتمونيه أي جعلتموني شريكا له بالطاعة وهو الله عز وجل، فأشرك منقول من شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان، والكلام على هذا إقرار من اللعين بقدم كفره وبيان لأن خطيئته سابقة عليهم فلا إغاثة لهم منه فهو في المعنى تعليل لعدم إصراخه إياهم. وزعم الإمام أنه لنفي تأثير الوسوسة كأنه يقول: لا تأثير لوسوستي في كفركم بدليل أني كفرت قبل أن وقعتم في الكفر بسبب وسوسة أخرى وإلا لزم التسلسل فثبت بهذا أن سبب الوقوع في الكفر شيء آخر سوى الوسوسة، وكان الظاهر على هذا تقديمه على قوله: ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ إلى آخره ولا يظهر لتأخيره نكتة يهش لها


الصفحة التالية
Icon