وَمَثَلُ بالنصب عطفا على كَلِمَةً طَيِّبَةً وقرأ أبيّ «وضرب الله مثلا كلمة خبيثة» كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ولعل تغيير الأسلوب على قراءة الجماعة للإيذان بأن ذلك غير مقصود بالضرب والبيان وإنما ذلك أمر ظاهر يعرفه كل أحد، وفي الكلام مضاف مقدر أي كمثل شجرة خبيثة، والمثل بمعنى الصفة الغريبة اجْتُثَّتْ أي اقتلعت من أصلها، وحقيقة الاجتثاث أخذ الجثة وهي شخص الشيء كلها مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لكون عروقها قريبة من الفوق فكأنها فوق ما لَها مِنْ قَرارٍ أي استقرار على الأرض، والمراد بهذه
الشجرة المنعوتة الحنظلة. وروي ذلك أيضا مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم،
وعن الضحاك أنها الكشوث، ويشبه به الرجل الذي لا حسب له ولا نسب كما قال الشاعر:

فهو الكشوث فلا أصل ولا ورق ولا نسيم ولا خللّ ولا ثمر
وقال الزجاج وفرقة شجرة الثوم، وقيل: شجرة الشوك، وقيل: الطحلب، وقيل: الكمأة وقيل: كل شجر لا يطيب له ثمر، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنها شجرة لم تخلق على الأرض والمقصود التشبيه بما اعتبر فيه تلك النعوت، وقال ابن عطية: الظاهر أن التشبيه وقع بشجرة غير معينة جامعة لتلك الأوصاف وفي رواية عن الحبر أيضا تفسير هذه الشجرة بالكافر.
وروى الإمامية- وأنت تعرف حالهم- عن أبي جعفر رضي الله تعالى عنه تفسيرها ببني أمية وتفسير الشجرة الطيبة برسول الله صلى الله عليه وسلم: وعلي كرم الله تعالى وجهه. وفاطمة رضي الله تعالى عنها وما تولد منهما،
وفي بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية.
فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن أبي حاتم قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى قلب العباد ظهرا وبطنا فكان خير عباده العرب وقلب العرب ظهرا وبطنا فكان خير العرب قريشا وهي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه: مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ»
لأن بني أمية من قريش وأخبار الطائفتين في هذا الباب ركيكة وأحوال بني أمية التي يستحقون بها ما يستحقون غير خفية عند الموافق والمخالف، والذي عليه الأكثرون في هذه الشجرة الخبيثة أنها الحنظل، وإطلاق الشجرة عليه للمشاكلة وإلا فهو نجم لا شجر، وكذا يقال في إطلاقه على الكشوث ونحوه.
وللإمام الرازي قدس سره كلام في هذين المثلين لا بأس بذكره ملخصا وهو أنه تعالى ذكر في المثل الأول شجرة موصوفة بأربع صفات ثم شبه الكلمة الطيبة بها. الصفة الأولى كونها طَيِّبَةً وذلك يحتمل كونها طيبة المنظر وكونها طيبة الرائحة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كونها لذيذة مستطابة وكونها طيبة الثمرة بمعنى كثرة الانتفاع بها، ويجب إرادة الجميع إذ به يحصل كمال الطيب. والثانية كون «أصلها ثابتا» وهو صفة كمال لها لأن الشيء الطيب إذا كان في معرض الزوال فهو وإن كان يحصل الفرح بوجدانه إلا أنه يعظم الحزن بالخوف من زواله وأما إذ لم يكن كذلك فإنه يعظم السرور به من غير ما ينغص ذلك. والثانية كون فَرْعُها فِي السَّماءِ وهو أيضا صفة كمال لها لأنها متى كانت مرتفعة كانت بعيدة عن عفونة الأرض وقاذورات الأبنية فكانت ثمرتها نقية خالصة عن جميع الشوائب. والرابعة كونها «دائمة الثمر» لا أن ثمرها حاضر في بعض الأوقات دون بعض وهو صفة كمال أيضا إذ الانتفاع بها غير منقطع حينئذ.
ثم إن من المعلوم بالضرورة أن الرغبة في تحصيل مثل هذه الشجرة يجب أن تكون عظيمة، وأن العاقل متى أمكنه تحصيلها ينبغي أن يقوم له على ساق ولا يتساهل عنه، والمراد من الكلمة المشبهة بذلك معرفة الله تعالى والاستغراق في محبته سبحانه وطاعته، وشبه ذلك للشجرة في صفاتها الأربعة، أما في الأولى فظاهر بل لا لذة ولا طيب في الحقيقة إلا لهذه المعرفة لأنها ملائمة لجوهر النفس النطقية والروح القدسية ولا كذلك لذة الفواكه إذ هي أمر ملائم لمزاج البدن، ومن تأمل أدنى تأمل ظهر له فروق لا تحصى بين اللذتين، وأما في الصفة الثانية فثبوت الأصل في شجرة معرفة الله تعالى أقوى وأكمل لأن عروقها راسخة في جوهر النفس القدسية وهو جوهر مجرد آمن عن الكون


الصفحة التالية
Icon