وغيرها من العذاب فبعد هذا التصريح كيف يدعي ذلك الحصر؟، وفي بعض الأبحاث نظر. وقال بعض الفضلاء: قد يقال: إن المراد بالناس في الخبر المؤمنون لما في خبر آخر أخرجه ابن مردويه عن الحبر قال: «لما نزلت أَتى أَمْرُ اللَّهِ ذعر أصحاب رسول الله ﷺ حتى نزلت فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فسكنوا». وهذا أيضا على ما قيل لا يقتضي كون الخطاب للمؤمنين لجواز أن يقال: إنهم لما سمعوا أول الآية ذعروا واضطربوا لظن أنه وقع فلما سمعوا خطاب الكفرة بقوله سبحانه: فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ اطمأنت قلوبهم وسكنوا، وقد يورد على دعوى أن صدور استعجال الساعة من المؤمنين مستحيل أن ذلك حق لو كان استعجالهم على طرز استعجال الكفرة لها وليس ذلك بمسلم فإنه يجوز أن يراد باستعجالهم اضطرابهم وتهيؤهم لها المنزل منزلة الاستعجال الحقيقي، واستدل على كون الخطاب للكفرة بقوله سبحانه وتعالى: سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ فإنه على ذلك التقدير يظهر ارتباطه بما قبله وذلك بأن يقال حينئذ:
لما كان استعجالهم ذلك من نتائج إشراكهم المستتبع لنسبة الله تعالى إلى ما لا يليق به سبحانه من العجز والاحتياج إلى الغير واعتقادهم أن أحدا يحجزه عن إمضاء وعيده أو إنجاز وعده قيل بطريق الاستئناف ذلك على معنى تنزه وتقدس بذاته وجل عن إشراكهم المؤدي إلى صدور أمثال هذه الأباطيل عنهم أو عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم بوجه من الوجوه وقد كانوا يقولون على ما في بعض الروايات: إن صح مجيء ذلك فالأصنام تخلصنا عنه بشفاعتها لنا، والتعبير بالمضارع للدلالة على تجدد إشراكهم واستمراره والالتفات إلى الغيبة للإيذان باقتضاء ذكر قبائحهم للإعراض عنهم وطرحهم عن رتبة الخطاب وحكاية شنائعهم للغير وهذا لا يتأتى على تقدير تخصيص الخطاب بالمؤمنين، وقيل في وجه الارتباط على ذلك التقدير: إنه تعالى لما نهاهم عن الاستعجال ذكر ما يتضمن أن إنذاره سبحانه واخباره تعالى للتخويف والإرشاد وأن قوله جل وعلا: أَتى أَمْرُ اللَّهِ إنما هو لذلك فيستعد كل أحد لمعاده ويشتغل قبل السفر بتهيئة زاده فلذلك عقب بذلك دون عطف، وقد أشار بعضهم إلى ارتباط ذلك باعتبار ما بعده فيكون ما ذكر مقدمة واستفتاحا له، وأيضا فإن قوله تعالى: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ لما يرد بعده من أدلة التوحيد اه، وأنت تعلم أن الارتباط على ما قرر أولا أظهر منه على هذا التقرير فافهم، ثم إن ما تحتمل الموصولية والمصدرية والاحتمال الثاني أظهر، ولا بد على الاحتمال الأول من اعتبار ما أشرنا إليه وإلا فلا يظهر التنزيه عن الشريك. وقرأ حمزة والكسائي «تشركون» بتاء الخطاب على وفق فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ وقرأ باقي السبعة والأعرج وأبو جعفر وأبو رجاء والحسن بياء الغيبة، وقد تقدم أن في الكلام حينئذ التفاتا وهو مبني على أن الخطاب السابق للكفرة أما إذا كان للمؤمنين أو لهم وللكفرة فلا يتحد معنى الضميرين حتى يكون التفات ولا التفات أيضا على قراءة «تشركون» بالتاء سواء كان الخطاب الأول للكفرة أو لهم وللمؤمنين. نعم في ذلك على تقدير عموم الخطاب تغليبان على ما قيل الأول تغليب المؤمنين على غيرهم في الخطاب والثاني تغليب غيرهم عليهم في نسبة الشرك، وعلى قراءة «يستعجلوه» ويُشْرِكُونَ بالتحتية فيهما لا التفات ولا تغليب يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ قيل هو إشارة إلى طريق علم الرسول ﷺ بإتيان ما أوعد به وباقترابه إزاحة لاستبعاد اختصاصه عليه الصلاة والسلام بذلك، وقال في الكشف:
التحقيق أن قوله سبحانه: أَتى أَمْرُ اللَّهِ تنبيه وإيقاظ ليكون ما يرد بعده ممكنا في نفس حاضرة ملقية إليه وهو تمهيد لما يرد من دلائل التوحيد وقوله تعالى: يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إلخ تفصيل لما أجمل في قوله سبحانه وتعالى أيقظ أولا ثم نعى عليهم ما هم فيه من الشرك ثم أردفه بدلائل السمع والعقل، وقدم السمعي لأن صاحبه هو القائم بتحرير العقلي وتهذيبه أيضا فليس النظر إلى دليل السمع بل إلى من قام به من الملائكة والرسل عليهم السلام وهم القائمون بالأمرين جميعا فافهم. وأخذ سيبويه منه أن جعل يُنَزِّلُ حالا من ضمير يُشْرِكُونَ لا يطابق المقام البتة انتهى.


الصفحة التالية
Icon