المعدنيات المحتاجة إلى أبخرة فيكون اختلاطها بالأرضية أكثر وإقامتها في مواضع لا تتفرق فيها أطول ولا شيء في هذا المعنى كالجبال، ومن تأمل علم أن للجبال منافع غير ذلك لا تحصى فلا يضر أن بعضا من الناس من وراء المنع لبعض ما ذكر وسمعت من بعض (١) العصريين أن من جملة منافعها كونها سببا لانكشاف هذا المقدار المشاهد من الأرض وذلك لاحتباس الأبخرة الطالبة لجهة العلو فيها، وهو يقتضي أن الأرض قبلها كانت مغمورة وهو خلاف ما يقتضيه ظاهر
قوله عليه الصلاة والسلام «لما خلق الله تعالى الأرض فجعلت تميد فوضع عليها الجبال فاستقرت»
على أنه يتراءى المنافاة بين جعلها أوتادا للمصرح به في الآيات وكونها جاذبة للأرض إلى جهة العلو ولا يرد على ما ذكر في توجيه كونها سببا لاستقرار الأرض أن كونها فيها كشرع في سفينة ينافيه إذ يقتضي ذلك أن تتحرك الأرض إلى خلاف جهة مهب الهواء لأنا من وراء منع حدوث الهواء على وجه يحركها بسببه كذلك.
وهذا كله إذا حكمنا العقل في البين وتقيدنا بالعاديات، وأما إذا أسندنا كل ذلك إلى قدرة الفاعل المختار جل شأنه وقلنا: إنه سبحانه خلق الأرض مائدة وجعل عليها الجبال وحفظها عن الميد لحكم علمها تحار فيها الأفكار ولا يحيط بها إلا من أوتي علما لدنيا من ذوي الأبصار ارتفعت عنا جميع المؤن وزالت سائر المحن ولا يلزمنا على هذا أيضا القول بأن الأرض وسط العالم كما هو رأي أكثر الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين. ولم يخالف من الأولين إلا شرذمة زعموا أن كرة النار في الوسط لأنها أشرف من الأرض لكونها مضيئة لطيفة حسنة اللون وكون الأرض كثيفة مظلمة قبيحة اللون وحيز الأشرف يجب أن يكون أشرف الاحياز وهو الوسط فإذن هي في الوسط وهذا من الإقناعات الضعيفة، ومع ذلك يرد عليه أنا لا نسلم شرافة النار على الأرض مطلقا فإنها إن ترجحت عليها باللطافة وما معها فالأرض راجحة بأمور. أحدها أن النار مفرطة الكيفية مفسدة والأرض ليست كذلك، وثانيها أنها لا تبقى في المكان الغريب مثل ما تبقى الأرض. وثالثها أن الأرض حيز الحياة والنشوء والنار ليست كذلك، وما ذكر من استحسان الحس البصري للنار يعارضه استحسان الحس اللمسي للأرض بالنسبة إليها، على أنا لو سلمنا الأشرفية فهي لا تقتضي إلا الوسط الشرقي لا المقداري إذ لا شرف له وذلك ليس هو الا حيزها الذي يزعمه جمهور المتقدمين لها لأنه متوسط بين الأجرام العنصرية والأجرام الفكلية، ولم يخالف من الآخرين إلا شرذمة قليلة وهم هرشل وأصحابه زعموا أن الشمس ساكنة في وسط العالم وكل ما عداها يتحرك عليها لأنها جرم عظيم جدا وكل الأجرام دونها لا سيما الأرض فإنها بالنسبة إليها كلا شيء، والحكمة تقتضي سكون الأكبر وتحرك الأصغر، وهذا أيضا من الإقناعات الضعيفة ومع ذلك يرد عليه أن سكون الأصغر لا سيما بين أمواج ورياح وحركة الأكبر لا سيما مثل الحركة التي يثبتها الجمهور للشمس أبلغ في القدرة، وتعليلهم ذلك أيضا بأنا لا نرى للشمس ميلا عما يقال له منطقة البروج فيقتضي أن تكون ساكنة بخلاف غيرها لا يخفي ما فيه، والذي يميل إليه كثير من الناس أن تحت الأرض ماء وأنها فيه كبطيخة خضراء في حوض. وجاء في بعض الأخبار أن الأرض على متن ثور والثور على ظهر حوت والحوت في الماء ولا يعلم ما تحت الماء إلا الذي خلقه. وذكر غير واحد أن زيادة كبد ذلك الحوت هو الذي يكون أول طعام أهل الجنة فحملوا الحوت فيما
صح من قوله صلى الله عليه وسلم: «أول شيء يأكله أهل الجنة زائدة كبد الحوت»
على ذلك الحوت وبينوا حكمة ذلك الأكل أنه إشارة إلى خراب الدنيا وبشارة بفساد أساسها وأمن العود إليها حيث إن الأرض التي كانوا يسكنونها كانت مستقرة عليه، وخص الأكل بالزائدة لما بينه الأطباء من أن العلة إذا وقعت في الكبد دون الزائدة رجي برؤه فإن وقعت

(١) هو الرشتي سيد كاظم اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon