وجوز في الآية استعارة كقوله تعالى: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ [الزمر: ٥] بجعله مغشيا للنهار ملفوفا عليه كاللباس على الملبوس، قيل: والأول أوجه وأبلغ، واكتفى بذكر تغشية الليل النهار مع تحقق عكسه للعلم به منه مع أن اللفظ يحتملهما إلا أن التغشية بمعنى الستر وهي أنسب بالليل من النهار، وعد هذا في تضاعيف الآيات السفلية وإن كان تعلقه بالآيات العلوية ظاهرا باعتبار ظهوره في الأرض.
وقرأ حمزة. والكسائي. وأبو بكر «يغشّي» بالتشديد وقد تقدم تمام الكلام في ذلك إِنَّ فِي ذلِكَ أي فيما ذكر من مد الأرض وجعل الرواسي عليها وإجراء الأنهار فيما وخلق الثمرات واغشاء الليل النهار، وفي الإشارة بذلك تنبيه على عظم المشار إليه في بابه لَآياتٍ باهرة قيل: هي آثار تلك الأفاعيل البديعة جلت حكمة صانعها- ففي- على معناها فإن تلك الآثار مستقرة في تلك الأفاعيل منوطة بها، وجوز أن يشار بذلك إلى تلك الآثار المدلول عليها بتلك الأفاعيل لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإن التفكر فيها يؤدي إلى الحكم بأن يكون كل من ذلك على هذا النمط الرائق والأسلوب اللائق لا بد له من مكون قادر حكيم يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. والفكرة كما قال الراغب قوة مطرقة للعلم إلى المعلوم، والتفكر جولان تلك القوة بحسب نظر العقل وذلك لإنسان دون الحيوان، ولا يقال: إلا فيما لا يمكن أن يحصل له صورة في القلب، ولهذا
روي تفكروا في آلاء الله تعالى ولا تتفكروا في الله تعالى إذ كان الله سبحانه منزها أن يوصف بصورة.
وقال بعض الأدباء: الفكر مقلوب عن الفرك لكن يستعمل الفكر في المعاني وهو فرك الأمور وبحثها طلبا للوصول إلى حقيقتها، والمشهور أنه ترتيب أمور معلومة للتأدي إلى مجهول، وقد تقدم وجه جعل هذا مقطعا في الآية.
وذكر الإمام أن الأكثر في الآيات إذا ذكر فيها الدلائل الموجودة في العالم السفلي أن يجعل مقطعها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وما يقرب منه وسببه أن الفلاسفة يسندون حوادث العالم السفلى إلى الاختلافات الواقعة في الإشكالات الكوكبية فرده الله تعالى بقوله: لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ لأن من تفكر فيها علم أنه لا يجوز أن يكون حدوث تلك الحوادث من الاتصالات الفلكية فتفكر. وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ جملة مستأنفة مشتملة على طائفة أخرى من الآيات أي في الأرض بقاع كثيرة مختلفة في الأوصاف فمن طيبة منبتة ومن سبخة لا تنبت ومن رخوة ومن صلبة ومن صالحة للزرع لا للشجر ومن صالحة للشجر لا للزرع إلى غير ذلك مُتَجاوِراتٌ أي متلاصقة والمقصود الأخبار بتفاوت أجزاء الأرض المتلاصقة على الوجه الذي علمت وهذا هو المأثور عن الأكثرين، وأخرج أبو الشيخ عن قتادة أن المعنى وفي الأرض قرى قريب بعضها من بعض، وأخرج عن الحسن أنه فسر ذلك بالأهواز. وفارس. والكوفة.
والبصرة، ومن هنا قيل في الآية اكتفاء على حد سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ [النحل: ٨١] والمراد قطع متجاورات وغير متجاورات، وفي بعض المصاحف «وقطعا متجاورات» بالنصب أي وجعل في الأرض قطعا وَجَنَّاتٌ أي بساتين كثيرة (١) مِنْ أَعْنابٍ أي من أشجار الكرم وَزَرْعٌ من كل نوع من أنواع الحبوب، لمراعاة أصله حيث كان مصدرا، ولعل تقديم ذكر الجنات عليه مع كونه عمود المعاش لما أن في صنعة الأعناب مما يبهر العقول ما لا يخفى، ولو لم يكن فيها إلا أنها مياه متجمدة في ظروف رقيقة حتى إن منها شفافا لا يحجب البصر عن إدراك ما في جوفه لكفى، ومن هنا جاء في بعض الأخبار القدسية أتكفرون بي وأنا خالق العنب. وفي إرشاد العقل السليم تعليل ذلك بظهور حال الجنات في اختلافها ومباينتها لسائرها ورسوخ ذلك فيها، وتأخير قوله تعالى: وَنَخِيلٌ لئلا يقع بينها

(١) التقييد بذلك من المقام اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon