فعل مقدر أي تأسف أسفا، والأسف على ما نقل عن الزجاج المبالغة في الحزن والغضب.
وقال الراغب: الأسف الحزن والغضب معا وقد يقال لكل منهما على الانفراد، وحقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان على من دونه انتشر فصار غضبا ومتى كان على ما فوقه انقبض فصار حزنا، ولذلك سئل ابن عباس رضي الله تعالى عنهما عن الحزن والغضب فقال: مخرجهما واحد واللفظ مختلف فمن نازع من يقوى عليه أظهره غيظا وغضبا ومن نازع من لا يقوى عليه أظهره حزنا وجزعا، وبهذا النظر قال الشاعر:
فحزن كل أخي حزن أخو الغضب وإلى كون الأسف أعم من الحزن والغضب وكون الحزن على من لا يملك ولا هو تحت يد الآسف والغضب على من هو في قبضته وملكه ذهب منذر بن سعد وفسر الأسف هنا بالحزن بخلافه في قوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ [الزخرف: ٥٥] وإذا استعمل الأسف مع الغضب يراد به الحزن على ما قيل في قوله تعالى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً [الأعراف: ١٥٠] وجعل كل منهما فيه بالنسبة إلى بعض من القوم، وعن قتادة تفسير الأسف هنا بالغضب، وفي رواية أخرى بالحزن، وفي صحيح البخاري تفسيره بالندم. وعن مجاهد تفسيره بالجزع، وأهل الحزن أكثر، ولعل للترجي وهو الطمع في الوقوع أو الإشفاق منه، وهي هنا استعارة أي وصلت إلى حالة يتوقع منك الناس ذلك لما يشاهد من تأسفك على عدم إيمانهم.
وقال العسكري: هي هنا موضوعة موضع النهي كأنه قيل لا تبخع نفسك، وقيل موضع الاستفهام، وجعله ابن عطية إنكاريا على معنى لا تكن كذلك، والقول بمجيء لعل للاستفهام قول كوفي، والذي يظهر أنها هنا للإشفاق الذي يقصد به التسلي والحث على ترك التحزن والتأسف، ويمكن أن يكون مراد العسكري ذلك، وفي الآية عند غير واحد استعارة تمثيلية وذلك أنه مثل حاله صلّى الله عليه وسلّم في شدة الوجد على إعراض القوم وتوليهم عن الإيمان بالقرآن وكمال الحزن عليهم بحال من يتوقع منه إهلاك نفسه إثر فوت ما يحبه عند مفارقة أحبته تأسفا على مفارقتهم وتلهفا على مهاجرتهم ثم قيل ما قيل، وهو أولى من اعتبار الاستعارة المفردة التبعية في الأطراف.
وجوز أن تكون من باب التشبيه لذكر طرفيه وهما النبي صلّى الله عليه وسلّم وباخع بأن يشبه عليه الصلاة والسلام لشدة حرصه على الأمر بمن يريد قتل نفسه لفوات أمر وهو كما ترى.
إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ الظاهر عموم ما جميع ما لا يعقل أي سواء كان حيوانا أو نباتا أو معدنا أي جعلنا جميع ما عليها من غير ذوي العقول زِينَةً لَها تتزين به وتتحلى وهو شامل لزينة أهلها أيضا وزينة كل شيء يحسبه بالحقيقة وإنما هو زينة لأهلها، وقيل لا يدخل في ذلك ما فيه إيذاء من حيوان ونبات، ومن قال بالعموم قال: لا شيء مما على الأرض إلا وفيه جهة انتفاع ولا أقل من الاستدلال به على الصانع ووحدته، وخص بعضهم ما بالأشجار والأنهار، وآخر بالنبات لما فيه من الأزهار المختلفة الألوان والمنافع، وآخر بالحيوان المختلف الأشكال والمنافع والأفعال، وآخر بالذهب والفضة والرصاص والنحاس والياقوت والزبرجد واللؤلؤ والمرجان والألماس وما يجري مجرى ذلك من نفائس الأحجار.
وقالت فرقة: أريد بها الخضرة والمياه والنعم والملابس والثمار، ولعمري إنه تخصيص لا يقبله الخواص على العموم وقيل إن ما هنا لمن يعقل والمراد بذلك على ما أخرج ابن أبي حاتم عن ابن جبير والحسن وجاء في رواية عن ابن عباس الرجال، وعلى ما أخرج أبو نصر السجزي في الإبانة عن ابن عباس العلماء وعلى ما روي عكرمة الخلفاء والعلماء والأمراء، وأنت تعلم أن جعل ما لمن يعقل مع إرادة ما ذكر بعيد جدا، ولعل أولئك الأجلة أرادوا من ما العقلاء


الصفحة التالية
Icon