فالكلام إخبار فيه معنى الإنكار لا إخبار محض بقرينة ما بعده ولأن فائدة الخبر معلومة لَوْلا يَأْتُونَ تحضيض على وجه الإنكار والتعجيز إذ يستحيل أن يأتوا عَلَيْهِمْ بتقدير مضاف أي على ألوهيتهم أو على صحة اتخاذهم لها آلهة بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ بحجة ظاهرة الدلالة على مدعاهم فإن الدين لا يؤخذ إلا به، واستدل به على أن ما لا دليل عليه من أمثال ما ذكر مردود فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا، وقد مر تحقيق المراد من هذا التركيب، وهذه المقالة يحتمل أن يكونوا قالوها بين يدي الجبار تبكيتا له وتعجيزا وتأكيدا للتبرّي من عبادة ما يدعوهم إليه بأسلوب حسن ويحتمل أن يكونوا قالوها فيما بينهم لما عزموا عليه وخبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما السابق نص في أن هذه المقالة وما قبلها وما بعدها إلى مِرفَقاً مقولة فيما بينهم، ودعوى أنه إذا كان المراد من القيام فيما مر قيامهم بين يدي الجبار يتعين كون هذه المقالة صادرة عنهم بعد خروجهم من عنده غير مسلمة كما لا يخفى، نعم ينبغي أن يكون قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ مقولا فيما بينهم مطلقا خاطب به بعضهم بعضا. وفي مجمع البيان عن ابن عباس أن قائله يمليخا، والاعتزال تجنب الشيء بالبدن أو بالقلب وكلا الأمرين محتمل هنا، والتعزل بمعناه ومن ذلك قوله:

يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدا وبه الفؤاد موكل
و «ما» يحتمل أن تكون موصولة وأن تكون مصدرية، والعطف في الاحتمالين على الضمير المنصوب، والظاهر أن الاستثناء فيهما متصل، ويقدر على الاحتمال الثاني مضاف في جانب المستثنى ليتأتى الاتصال أي وإذ اعتزلتموهم واعتزلتم الذين يعبدونهم إلا الله تعالى أو إذا اعتزلتموهم واعتزلتم عبادتهم إلا عبادة الله عز وجل، وتقدير مستثنى منه على ذلك الاحتمال لذلك نحو عبادتهم لمعبوديهم تكلف، ويحتمل أن يكون منقطعا، وعلى الأول يكون القوم عابدين الله تعالى وعابدين غيره كما جاء ذلك في بعض الآثار.
أخرج سعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو نعيم عن عطاء الخراساني أنه قال: كان قوم الفتية يعبدون الله تعالى ويعبدون معه آلهة شتى فاعتزلت الفتية عبادة تلك الآلهة ولم تعتزل عبادة الله تعالى.
وعلى الثاني يكونون عابدين غيره تعالى فقط، قيل وهذا هو الأوفق بقوله تعالى أولا: هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً فتأمل.
وجوز أن تكون ما نافية والاستثناء مفرغ والجملة إخبار من الله تعالى عن الفتية بالتوحيد معترضة بين إذ وجوابه أعني قوله تعالى: فَأْوُوا أي التجثوا إِلَى الْكَهْفِ ووجه الاعتراض على ما في الكشف أن قوله تعالى: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ فأووا معناه وإذا اجتنبتم عنهم وعما يعبدون فأخلصوا له العبادة في موضع تتمكنون منه فدل الاعتراض على أنهم كانوا صادقين وأنهم أقاموا بما وصى به بعضهم بعضا فهو يؤكد مضمون الجملة. وإلى كون فَأْوُوا جواب إذ ذهب الفراء، وقيل: إنه دليل الجواب أي وإذ اعتزلتموهم اعتزالا اعتقاديا فاعتزلوهم اعتزالا جسمانيا أو إذا أردتم الاعتزال الجسماني فافعلوا ذلك. واعترض كلا القولين بأن إذ بدون ما لا تكون للشرط، وفي همع الهوامع أن القول بأنها تكون له قول ضعيف لبعض النحاة أو تسامح لأنها بمعناه فهي هنا تعليلية أو ظرفية وتعلقها قيل بأووا محذوفا دل عليه المذكور لا به لمكان الفاء أو بالمذكور والظرف يتوسع فيه ما لا يتوسع في غيره، وقال أبو البقاء: إذ ظرف لفعل محذوف أي وقال بعضهم لبعض، وظاهره أنه عنى بالفعل المحذوف قال وأقول: هو من أعجب العجائب. وفي مصحف ابن مسعود كما أخرج ابن جرير وابن أبي حاتم عن قتادة «وما يعبدون من دون الله» وقال


الصفحة التالية
Icon