ومما يستهجن من القول ما يحكى عن بعض المتصوفة أنه سمع قارئا يقرأ هذه الآية فقال: لو اطلعت أنا ما وليت منهم فرارا وما ملئت منهم رعبا.
وما نقل عن بعضهم من الجواب بأن مراد قائله إثبات مرتبة الطفولية لنفسه فإن الطفل لا يهاب الحية مثلا إذا رآها ولا يفرق بينها وبين الحبل على تقدير تسليم أن مراده ذلك لا يدفع الاستهجان، وذلك نظير قول من قال سبحانه وتعالى لا يعلم الغيب على معنى أنه لا غيب بالنسبة إليه عز وجل ليتعلق به علمه، ولنعم ما قال عمر رضي الله تعالى عنه: كلموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب الله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم.
هذا وقرأ ابن عباس والحرميان وأبو حيوة وابن أبي عبلة «ولملئت» بتشديد اللام والهمزة، وقرأ أبو جعفر وشيبة بتشديد اللام وقلب الهمزة ياء وقرأ الزهري بالتخفيف والقلب وقرأ أبو جعفر وعيسى «رعبا» بضم العين وَكَذلِكَ بَعَثْناهُمْ أي كما أنمناهم هذه الإنامة الطويلة وهي المفهومة مما مر أيقظناهم فالمشبه الإيقاظ والمشبه به الإنامة المشار إليها ووجه الشبه كون كل منهما آية دالة على كمال قدرته الباهرة عز وجل.
لِيَتَسائَلُوا بَيْنَهُمْ أي ليسأل بعضهم بعضا فيترتب عليه ما فصل من الحكم البالغة وجعل علة للبعث المعلل بما سبق فيما سبق قيل من حيث إنه من أحكامه المترتبة عليه والاقتصار على ذكره لاستتباعه لسائر آثاره، وجعل غير واحد اللام للعاقبة، واستظهره الخفاجي وادعى أن من فعل ذلك لاحظ أن الغرض من فعله تعالى شأنه إظهار كمال قدرته لا ما ذكر من التساؤل فتأمل.
قالَ استئناف لبيان تساؤلهم قائِلٌ مِنْهُمْ قيل هو كبيرهم مكسلمينا، وقيل صاحب نفقتهم يمليخا كَمْ لَبِثْتُمْ أي كم يوما أقمتم نائمين، وكأنه قال ذلك لما رأى من مخالفة حالهم لما هو المعتاد في الجملة، وقيل راعهم ما فاتهم من الصلاة فقالوا ذلك: قالُوا أي قال بعضهم: لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ أو للشك كما قاله غير واحد، والمراد لم نتحقق مقدار لبثنا أي لا ندري أن مدة ذلك هل هي مقدار مدة يوم أو مقدار مدة بعض يوم منه، والظاهر أنهم قالوا ذلك لأن لوثة النوم لم تذهب من بصرهم وبصيرتهم فلم ينظروا إلى الأمارات، وهذا مما لا غبار عليه سواء كان نومهم وانتباههم جميعا أو أحدهما في النهار أم لا، والمشهور أن نومهم كان غدوة وانتباههم كان آخر النهار، وقيل فلم يدروا أن انتباههم في اليوم الذي ناموا فيه أم في اليوم الذي بعده فقالوا ما قالوا، واعترض بأن ذلك يقتضي أن يكون التردد في بعض يوم ويوم وبعض، ومن هنا قيل إن أو للإضراب، وذلك أنهم لما انتبهوا آخر النهار وكانوا في جوف الغار ولوثة النوم لم تفارقهم بعد قالوا قبل النظر لَبِثْنا يَوْماً ثم لما حققوا أن الشمس لم تغرب بعد قالوا: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ وأنت تعلم أن الظاهر أنها لك والاعتراض مندفع بإرادة ما سمعت منه، نعم هو في ذلك مجاز، وحكى أبو حيان أنها للتفصيل على معنى قال بعضهم: لبثنا يوما، وقال آخرون: لبثنا بعض يوم وقول كل مبنى على غالب الظن على ما قيل فلا يكون كذبا ولا يخفى أن القول بأنها للتفصيل مما لا يكاد يذهب إليه الذهن، ولا حاجة إلى بناء الأمر على غالب الظن لنفي أن يكون كذبا بناء على ما ذكرنا من أن المراد لم نتحقق مقداره كما ذكره أهل المعاني في قول النبي صلّى الله عليه وسلّم وقد سلم سهوا من صلاة رباعية فقال له ذو اليدين: أقصرت الصلاة أم نسيت يا رسول الله؟ قال: كل ذلك لم يكن قالُوا أي قال بعض آخر منهم استدلالا أو إلهاما رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ أي أنتم لا تعلمون مدة لبثكم، وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا رد منهم على الأولين على أحسن ما يكون من مراعاة حسن الأدب وبه كما قيل يتحقق التحزب إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقيل قائل القولين متحد لكن الحالة مختلفة.
وتعقب بأنه لا يساعده النظم الكريم فإن الاستئناف في الحكاية والخطاب في المحكي يقضي بأن الكلام جار


الصفحة التالية
Icon