والقمر على جزء واحد، وأخرج ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب القرظي أنه قال: كانت شمس بالليل وشمس بالنهار فمحى الله تعالى شمس الليل فهو المحو الذي في القمر،
وأخرج البيهقي في دلائل النبوة. وابن عساكر عن سعيد المقبري أن عبد الله بن سلام سأل النبي صلّى الله عليه وسلّم عن السواد الذي في القمر فقال: كانا شمسين وقال قال الله تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ فالسواد الذي رأيت هو المحو
وفي حديث طويل أخرجه ابن أبي حاتم وابن مردويه بسند واه عن ابن عباس مرفوعا أن الله تعالى خلق شمسين من نور عرشه فأرسل جبريل عليه السلام فأمر جناحه على وجه القمر وهو يومئذ شمس ثلاث مرات فطمس عنه الضوء وبقي فيه النور وذلك قوله تعالى:
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ الآية
إلى غير ذلك من الآثار، والفاء على هذا للتعقيب. وجعل آية النهار وهي الشمس مبصرة على نحو ما تقدم فتبصر، وقيل محو القمر أما خلقه كمدا مطموس النور غير مشرق بالذات على ما ذكره أهل الهيئة من أنه غير مضيء في نفسه بل نوره مستفاد من ضوء الشمس فالفاء تفسيرية كما مر وإما نقص ما استفاده من الشمس شيئا فشيئا بحسب الرؤية والإحساس إلى أن ينمحق على ما هو معنى المحو فالفاء للتعقيب، وذكر الإمام في محوه قولين، أحدهما نقص نوره قليلا قليلا إلى المحاق، وثانيهما جعله ذا كلف ثم قال: حمله على الوجه الأول أولى لأن اللام في الفعلين بعد متعلق بما هو المذكور قبل وهو محو آية الليل وجعل آية النهار مبصرة، ومحو آية الليل إنما يؤثر في ابتغاء فضل الله تعالى إذا حملنا محو القمر على زيادة نور القمر ونقصانه لأن سبب حصول هذه الآية مختلف باختلاف أحوال نور القمر وأهل التجارب أثبتوا أن اختلاف أحوال القمر في مقادير النور له أثر عظيم في أحوال هذا العالم ومصالحه مثل أحوال البحار في المد والجزر ومثل أحوال البحرانات على ما يذكره الأطباء في كتبهم، وأيضا بسبب زيادة نور القمر ونقصانه يحصل الشهور وبسبب معاودة الشهور يحصل السنون العربية المبنية على رؤية الهلال كما قال سبحانه وَلِتَعْلَمُوا إلخ اه.
وأنت تعلم أنه متى دل أثر صحيح عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم على ما ذكرناه أولا لا ينبغي أن يدعي أن غيره أولى، وهو لعمري وجه لا كلف فيه عند من له عين مبصرة، وللفلاسفة في هذا المحو المرئي في وجه القمر كلام طويل لا بأس بأن تحيط به خبرا فنقول: ذكر الإمام في المباحث الشرقية أن امتناع بعض المواضع في وجه القمر عن قبول الضوء التام إما أن يكون بسبب خارج عن جرم القمر أو غير خارج عنه فإن كان بسبب خارج فإما أن يكون لمثل ما يعرض للمرايا من وقوع أشباح الأشياء فيها فإذا رؤيت تلك الأشياء لم تر براقة فكذلك القمر لما تصورت فيه أشباح الجبال والبحار وجب أن لا ترى تلك المواضع في غاية الاستنارة، وإما أن يكون ذلك بسبب ساتر والأول باطل، أما أولا فلأن الأشباح لا تنحفظ هيئتها مع حركة المرآة وبتقدير سكونها لا تستقر تلك الأشباح فيها عند اختلاف مقامات الناظرين والآثار التي في وجه القمر ليست كذلك، وأما ثانيا فلأن القمر ينعكس الضوء عنه إلى البصر وما كان كذلك لم يصلح للتخييل، وأما ثالثا فلأنه كان يجب أن تكون تلك الآثار كالكرات لأن الجبال في الأرض كتضريس أو خشونة في سطح كرة وليس لها من المقدار قدر ما يؤثر في كرية الأرض فكيف لاشباحها المرئية في المرآة.
وأما إن كان ذلك بسبب ساتر فذلك الساتر إما أن يكون عنصريا أو سماويا والأول باطل، أما أولا فلأنه كان يجب أن يكون المواضع المتسترة من جرم القمر مختلفة باختلاف مقامات الناظرين، وأما ثانيا فلأن ذلك الساتر لا يكون هواء صرفا ولا نارا صرفة لأنهما شفافان فلا يحجبان بل لا بد وأن يكون مركبا إما بخارا وإما دخانا وذلك لا يكون مستمرا، وأما إن كان الساتر سماويا فهو الحق وذلك إنما يكون لقيام أجسام سماوية قريبة المكان جدا من القمر وتكون من الصغر بحيث لا يرى كل واحد منها بل جملتها على نحو مخصوص من الشكل وتكون إما عديمة الضوء


الصفحة التالية
Icon