مكان ليس بمرأى ولا مسمع من الناس فقد أخفاه، وقيل: هو مجاز عن عدم الرياء أي الإخلاص ولم ينافه النداء بمعنى رفع الصوت لهذا.
وفي الكشف أنه الأشبه أنه كناية مع إرادة الحقيقة لأن الخفاء في نفسه مطلوب أيضا لكن المقصود بالذات الإخلاص، وقيل مستورا عن الناس بالمخافتة، ولا منافاة بناء على ارتكاب المجاز أو بناء على أن النداء لا يلزمه رفع الصوت ولذا قيل: يا من ينادي بالضمير فيسمع وكان نداؤه عليه السّلام كذلك لما مر آنفا أو لضعف صوته بسبب كبره كما قيل الشيخ صوته خفات وسمعه تارات، قيل: كان سنه حينئذ ستين سنة، وقيل خمسا وستين، وقيل سبعين، وقيل خمسا وسبعين، وقيل ثمانين، وقبل خمسا ثمانين، وقيل اثنتين وتسعين، وقيل تسعا وتسعين، وقيل مائة وعشرين وهو أوفق بالتعليل المذكور.
وزعم بعضهم أنه أشير إلى كون النداء خفيا ليس فيه رفع بحذف حرفه في قوله تعالى قالَ رَبِّ والجملة تفسير للنداء وبيان لكيفيته فلا محل لها من الإعراب إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي ضعف، وإسناد ذلك إلى العظم لما أنه عماد البدن ودعام الجسد فإذا أصابه الضعف والرخاوة تداعى ما وراءه وتساقطت قوته ففي الكلام كناية مبنية على تشبيه مضمر في النفس أو لأنه أشد أجزائه صلابة وقواما وأقلها تأثرا من العلل فإذا وهن كان ما وراءه أوهن، ففي الكلام كناية بلا تشبيه، وأفرد- على ما قاله العلامة الزمخشري وارتضاه كثير من المحققين- لأن المفرد هو الدال على معنى الجنسية والقصد إلى أن هذا الجنس الذي هو العمود والقوام وأشد ما تركب منه الجسد قد أصابه الوهن ولو جمع لكان القصد إلى معنى آخر وهو أنه لم يهن منه بعض عظامه ولكن كلها حتى كأنه وقع من سامع شك في الشمول والإحاطة لأن القيد في الكلام ناظر إلى نفي ما يقابله وهذا غير مناسب للمقام، وقال السكاكي: إنه ترك جمع الْعَظْمُ إلى الأفراد لطلب شمول الوهن العظام فردا فردا ولو جمع لم يتعين ذلك لصحة وهنت العظام عند حصول الوهن لبعض منها دون كل فرد وهو مسلك آخر مرجوح عند الكثير وتحقيق ذلك في موضعه، وعن قتادة أنه عليه السّلام اشتكى سقوط الأضراس ولا يخفى أن هذا يحتاج إلى خبر يدل عليه فإن انفهامه من الآية مما لا يكاد يسلم، ومِنِّي متعلق بمحذوف هو حال من العظم، ولم يقل- عظمي- مع أنه أخصر لما في ذلك من التفصيل بعد الإجمال ولأنه أصرح في الدلالة على الجنسية المقصودة هنا، وتأكيد الجملة لإبراز كمال الاعتناء بتحقيق مضمونها.
وقرأ الأعمش «وهن» بكسر الهاء، وقرىء بضمها أيضا وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً شبه الشيب في البياض والإنارة بشواظ النار وانتشاره في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذ باشتعالها ثم أخرجه مخرج الاستعارة، ففي الكلام استعارتان تصريحية تبعية في اشْتَعَلَ ومكنية في الشيب، وانفكاكها عن التخييلية مما عليه المحققون من أهل المعاني على أنه يمكن على بعد القول بوجود التخييلية هنا أيضا. وتكلف بعضهم لزعمه عدم جواز الانفكاك وعدم ظهور وجود التخييلية إخراج ما في الآية مخرج الاستعارة التمثيلية وليس بذاك، وأسند الاشتعال إلى محل الشعر ومنبته وأخرج مخرج التمييز للمبالغة وإفادة الشمول فإن اسناد معنى إلى ظرف ما اتصف به زمانيا أو مكانيا يفيد عموم معناه لكل ما فيه في عرف التخاطب فقولك: اشتعل بيته نارا يفيد احتراق جميع ما فيه دون اشتعل نار بيته.
وزعم بعضهم أن شَيْباً نصب على المصدرية لأن معنى اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شاب، وقيل هو حال أي شائبا وكلا القولين لا يرتضيهما كامل كما لا يخفى، واكتفى باللام عن الإضافة لأن تعريف العهد المقصود هنا يفيد ما تفيده، ولما كان تعريف الْعَظْمُ السابق للجنس كما علمت لم يكتف به وزاد قوله مِنِّي وبالجملة ما أفصح هذه الجملة وأبلغها، ومنها أخذ ابن دريد قوله:


الصفحة التالية
Icon