قطع النفس كناية عن الاختناق، وقيل المعنى ليقطع الحبل بعد الاختناق على أن المراد به فرض القطع وتقديره كما أن المراد بالنظر في قوله تعالى: فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ تقدير النظر وتصويره وإلا فبعد الاختناق لا يتأتى منه ذلك أي فليقدر في نفسه النظر هل يذهبن كيده غيظه أو الذي يغيظه من النصر، ويجوز أن يراد فلينظر الآن أنه إن فعل ذلك هل يذهب ما يغيظه، وجوز أن يكون المأمور بالنظر غير المأمور الأول ممن يصح منه النظر، وأن يكون الكلام خارجا مخرج التهكم كما قيل إن تسمية فعله ذلك كيدا خارجة هذا المخرج، وقال جمع: إن إطلاق الكيد على ذلك لشبهه به فإن الكائد إذا كاد أتى بغاية ما يقدر عليه وذلك الفعل غاية ما يقدر عليه ذلك العدو الحسود، ونقل عن ابن زيد أن المعنى فليمدد حبلا إلى السماء المظلة وليصعد عليه ثم ليقطع الوحي عنه صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: ليقطع المسافة حتى يبلغ عنان السماء فيجهد في دفع نصره عليه الصلاة والسلام النازل من جهتها. وتعقبه المولى أبو السعود بأنه يأباه مساق النظم الكريم بيان أن الأمور المفروضة على تقدير وقوعها وتحققها بمعزل من إذهاب ما يغيظ، ومن البين أن لا معنى لفرض وقوع الأمور الممتنعة وترتيب الأمر بالنظر عليه لا سيما قطع الوحي فإن فرض وقوعه مخل بالمرام قطعا، ونوقش في ذلك بما لا يخفى على الناظر، نعم المعنى السابق هو الأولى، وأيا ما كان فمن يظن ذلك هم الكفرة الحاسدون له صلّى الله عليه وسلّم، وقيل: أعراب من أسلم. وغطفان تباطؤوا عن الإسلام وقالوا: نخاف أن لا ينصر محمد عليه الصلاة والسلام فينقطع ما بيننا وبين حلفائنا من يهود فلا يقرونا ولا يؤونا، وقيل: قوم من المسلمين كانوا لشدة غيظهم من المشركين يستبطئون ما وعد الله تعالى لرسوله صلّى الله عليه وسلّم من النصر والمعنى عليه وكذا على سابقه أن قيل إن أولئك الأعراب كانوا يستبطئون النصر أيضا من استبطأ نصر الله تعالى وطلبه عاجلا فليقتل نفسه لأن له وقتا اقتضت الحكمة وقوعه فيه فلا يقع في غيره، وأنت تعلم بعد هذين القولين وأن ثانيهما أبعده.
واستظهر أبو حيان كون ضمير ينصره عائدا على من لأنه المذكور وحق الضمير أن يعود على مذكور، وهو قول مجاهد وإليه ذهب بعضهم وفسر النصر بالرزق، قال أبو عبيدة: وقف علينا سائل من بني بكر فقال: من ينصرني نصرة الله تعالى وقالوا: أرض منصورة أي ممطورة، وقال الفقعسي:

وإنك لا تعطي امرأ فوق حقه ولا تملك الشيء الذي أنت ناصره
أي معطيه وكأنه مستعار من النصر بمعنى العون فالمعنى أن الأرزاق بيد الله تعالى لا تنال إلا بمشيئته فلا بد للعبد من الرضا بقسمته فمن ظن أن الله تعالى غير رازقه ولم يصبر ولم يستسلم فليبلغ غاية الجزع وهو الاختناق فإن ذلك لا يقلب القسمة ولا يرده مرزوقا والغرض الحث على الرضا بما قسم الله تعالى لا كمن يعبده على حرف وكأنه سبحانه لما ذكر المؤمنين عقيبهم على ما مر حذرهم عن مثل حالهم لطفا في شأنهم. ولا يخلو عن بعد وإن كان ربط الآية بما قبلها عليه قريبا، وقيل: الضمير لمن والنصر على المتبادر منه والمعنى من كان يظن أن لن ينصره الله تعالى فيغتاظ لانتفاء نصره فليحتل بأعظم حيلة في نصر الله تعالى إياه وليستفرغ جهده في إيصال النصر إليه فلينظر هل يذهبن ذلك ما يغيظه من انتفاء النصر. ولا يخفى ما في وجه الربط على هذا من الخفاء.
ومن كما أشرنا إليه شرطية، وجوز أن تكون موصولة والفاء في خبرها لتضمنها معنى الشرط وهل يذهبن في محل نصب بينظر، وذكر أنه على إسقاط الخافض، وقرأ البصريون وابن عامر وورش ثم ليقطع بكسر لام الأمر والباقون بسكونها على تشبيه ثم بالواو والفاء لأن الجميع عواطف وَكَذلِكَ أي مثل ذلك الإنزال البديع المنطوي على الحكم البالغة أَنْزَلْناهُ أي القرآن الكريم كله آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على معانيها الرائقة فالمشار إليه الإنزال المذكور بعد اسم الإشارة، ويجوز أن يكون المراد انزل الآيات السابقة. وأيا ما كان ففيه أن القرآن الكريم في


الصفحة التالية
Icon