بقوله تعالى الآتي: وَادْعُ إلخ، وأمر إلا نسبية عليه ظاهر إلا أنه في نفسه خلاف الظاهر، وقال الزجاج: هو نهي له عليه الصلاة والسلام عن منازعتهم كما تقول: لا يضاربنك زيد أي لا تضاربنه وذلك بطريق الكناية، وهذا إنما يجوز على ما قيل وبحث فيه من باب المفاعلة للتلازم فلا يجوز في مثل لا يضربنك زيد أن تريد لا تضربنه.
وتعقب بأنه لا يساعده المقام، وقرىء «فلا ينازعنك» بالنون الخفيفة، وقرأ أبو مجلز، ولا حق بن حميد «فلا ينزعنك» بكسر الزاي على أنه من النزع بمعنى الجذب كما في البحر، والمعنى كما قال ابن جني فلا يستخفنك عن دينك إلى أديانهم فتكون بصورة المنزوع عن شيء إلى غيره.
وفي الكشاف أن المعنى أثبت في دينك ثباتا لا يطمعون أن يجذبوك ليزيلوك عنه، والمراد زيادة التثبيت له عليه الصلاة والسلام بما يهيج حميته ويلهب غضبه لله تعالى ولدينه ومثله كثير في القرآن.
وقال الزجاج: هو من نازعته فنزعته أنزعه أي غلبته، فالمعنى لا يغلبنك في المنازعة والمراد بها منازعة الجدال يعني أن ذلك من باب المغالبة، لكن أنت تعلم أنها عند الجمهور تقال في كل فعل فاعلته ففعلته أفعله بضم العين ولا تكسر إلا شذوذا، وزعم الكسائي ورده العلماء أن ما كان عينه أو لامه حرف حلق لا يضم بل يترك على ما كان عليه فيكون ما هنا على توجيه الزجاج شاذا عند الجمهور.
وقال سيبويه: كما في المفصل وليس في كل شيء يكون هذا أي باب المغالبة ألا ترى أنك تقول (١) : نازعني فنزعته استغني عنه بغلبته، ثم إن المراد من لا يغلبنك في المنازعة لا تقصر في منازعتهم حتى يغلبوك فيها، وفيه مبالغة في التثبيت فليس هناك نهي له صلّى الله عليه وسلّم عن فعل غيره، هذا وما ذكرتا من تفسير المنسك بالشريعة هو رواية عطاء عن ابن عباس واختاره القفال، وقال الإمام: هو الأقرب، وقيل: هو مصدر بمعنى النسك أي العبادة، قال ابن عطية: يعطي ذلك هُمْ ناسِكُوهُ وقيل: هو اسم زمان، وقيل: اسم مكان، وكان الظاهر ناسكون فيه إلا أنه اتسع في ذلك، وقال مجاهد: هو الذبح.
وأخرج ذلك الحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن علي بن الحسن رضي الله تعالى عنهما وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما. وعبد بن حميد عن عكرمة، وجعل ضمير يُنازِعُنَّكَ للمشركين، والأمر المتنازع فيه أمر الذبائح لما ذكر من أن الآية نزلت بسبب قول الخزاعيين بديل بن ورقاء. وبشر بن سفيان ويزيد بن خنيس للمؤمنين ما لكم تأكلون ما قتلتم ولا تأكلون ما قتل الله تعالى، ومنهم من اقتصر على جعل محل النزاع أمر النسائك وجعله عبارة عن قول الخزاعيين المذكور. وتعقبه شيخ الإسلام بأنه مما لا سبيل إليه أصلا كيف لا وإنه يستدعي أن يكون أكل الميتة وسائر ما يدين به المشركون من الأباطيل من المناسك التي جعلها الله تعالى لبعض الأمم ولا يرتاب في بطلانه عاقل، وأجيب بأن المعنى عليه لا ينازعنك المشركون في أمر النسائك فإنه لكل أمة شريعة شرعناها وأعلمناك بها فكيف ينازعون بما ليس له عين ولا أثر فيها، وقيل: المعنى عليه لا تلتفت إلى نزاع المشركين في أمر الذبائح فإنا جعلنا لكل أمة من أهل الأديان ذبحاهم ذابحوه.
وحاصله لا تلتفت إلى ذلك فإن الذبح شرع قديم للأمم غير مختص بأمتك وهذا لا شك في صحته، ومن قال بصحة الآثار وعض عليها بالنواجذ لا يكاد يجد أولى منه في بيان حاصل الآية على ما تقتضيه، ومن لم يكن كذلك ورأى أن الآية متى احتملت معنى جزلا لا محذور فيه قيل به وإن لم يذكره أحد من السلف فعليه بما ذكرناه أولا في

(١) قيل إن ذلك في الأشهر فليحفظ اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon