الإيمان عليها في قوله تعالى: وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ [البقرة: ١٤٣] وقيل للحصر على معنى الذين هم في جميع صلاتهم دون بعضها خاشعون، وفي تقديم وصفهم بالخشوع في الصلاة على سائر ما يذكر بعد ما لا يخفى من التنويه بشأن الخشوع، وجاء أن الخشوع أول ما يرفع من الناس، ففي خبر رواه الحاكم وصححه أن عبادة بن الصامت قال: يوشك أن تدخل المسجد فلا ترى فيه رجلا خاشعا.
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد في الزهد والحاكم وصححه عن حذيفة قال: «أول ما تفقدون من دينكم الخشوع وآخر ما تفقدون من دينكم الصلاة وتنتقض عرى الإسلام عروة عروة» الخبر
وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ وهو ما لا يعتد به من الأقوال والأفعال، وعن ابن عباس تفسيره بالباطل، وشاع في الكلام الذي يورد لا عن روية وفكر فيجري مجرى اللغاء وهو صوت العصافير ونحوها من الطير وقد يسمى كل كلام قبيح لغوا، ويقال فيه كما قال أبو عبيدة لغو ولغا نحو عيب وعاب، وأنشد. عن اللغا ورفث التكليم. مُعْرِضُونَ في عامة أوقاتهم لما فيه من الحالة الداعية إلى الإعراض عنه مع ما فيهم من الاشتغال بما يعنيهم، وهذا أبلغ من أن يقال: لا يلهون من وجوه، جعل الجملة اسمية دالة على الثبات والدوام، وتقديم الضمير المفيد لتقوي الحكم بتكريره، والتعبير في المسند بالاسم الدال كما شاع على الثبات، وتقديم الظرف عليه المفيد للحصر، وإقامة الإعراض مقام الترك ليدل على تباعدهم عنه رأسا مباشرة وتسببا وميلا وحضورا فإن أصله أن يكون في عرض أي ناحية غير عرضه وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ الظاهر أن المراد بالزكاة المعنى المصدري- أعني التزكية- لأنه الذي يتعلق به فعلهم، وأما المعنى الثاني وهو القدر الذي يخرجه المزكي فلا يكون نفسه مفعولا لهم فلا بد إذا أريد من تقدير مضاف أي لأداء الزكاة فاعلون أو تضمين فاعِلُونَ معنى مؤدون وبذلك فسره التبريزي إلا أنه تعقب بأنه لا يقال فعلت الزكاة أي أديتها، وإذا أريد المعنى الأول أدى وصفهم بفعل التزكية إلى أداء العين بطريق الكناية التي هي أبلغ، وهذا أحد الوجوه للعدول عن والذين يزكون إلى ما في النظم الكريم.
وجميع ما مر آنفا في بيان أبلغية وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ من والذين لا يلهون جار هنا سوى الوجه الخامس اتفاقا والرابع عند بعض لأن المقدم متعلق تعلق الجار والمجرور بما بعده كيف واللام زائدة لتقوية العمل من وجهين، تقديم المعمول، وكون العامل اسما.
وقال بعض آخر: يمكن جريان مثله حيث قدم المعمول مع ضعف عامله لا للتخصيص بل لكونه مصب الفائدة، ويجوز اعتبار التخصيص الإضافي أيضا بالنسبة إلى الإنفاق فيما لا يليق، ووصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة للدلالة على أنهم لم يألوا جهدا بالعبادة البدنية والمالية، وتوسيط حديث الإعراض بينهما لكمال ملابسته بالخشوع في الصلاة وإلا فأكثر ما تذكر هاتان العبادتان في القرآن معا بلا فاصل.
وعن أبي مسلم أن الزكاة هنا بمعنى العمل الصالح كما في قوله: خَيْراً مِنْهُ زَكاةً [الكهف: ٨١] واختار الراغب أن الزكاة بمعنى الطهارة واللام للتعليل، والمعنى والذين يفعلون ما يفعلون من العبادة ليزكيهم الله تعالى أو ليزكوا أنفسهم، ونقل نحوه الطيبي عن صاحب الكشف فقال: قال صاحب الكشف: معنى الآية الذين هم لأجل الطهارة وتزكية النفس عاملون الخير، ويرشد إلى ذلك قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى [الأعلى: ١٤، ١٥] وقَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها [الشمس: ٩] فإن القرآن يفسر بعضه بعضا ولا ينبغي أن يعدل عن تفسير بعضه ببعض ما أمكن، وقال بعض الأجلة: إن اقتران ذلك بالصلاة ينادي على أن المراد وصفهم بأداء الزكاة الذي هو عبادة مالية، وتنظير ما نحن فيه بالآيتين بعيد لأنهما ليستا من هذا القبيل في شيء، وربما يقال: الفصل بينهما يشعر